جوزيف عيساوي* «رأيتُ مرةً بائعاً متجولاً/ رأيته على حافة السماء/ يتجوّل أو على ذراعيّ/ يتحوّل/ شذرات كلام». غابت الشاعرة والناقدة والمترجمة صباح زوين بعد صراع مع سرطان الرئة. لم «يتورط» أي من زملائها و«اصدقائها» في نشر خبر، ولو على موقع للتواصل الاجتماعي، يتمنى لها الابلال، هي من ترجم منتخبات من أشعار الجميع إلى لغتين، الفرنسية والاسبانية، صدرتا في أنطولوجيتين.

قد تكون مشاعر المرارة من بعض الوسط الثقافي مع خيبات شخصية ووجودية أخرى، وربما ابداعية في صراعها مع «البائع المتجوّل» الذي شاهدته (في النص اعلاه) على حافة السماء، وراء تعجيل النهاية، لكن حركتها الدؤوب عدة عقود، شاعرة بالفرنسية، ثم العربية، وناقدة ادبية ومترجمة جادة من العربية الى لغات عدة وبالعكس، وضعتها بين أبرز المبدعين والمترجمين اللبنانيين والعرب.
مذ اعلانها التوقف عن كتابة الشعر بالفرنسية، أغدقت صباح المجموعات بلغة عربية. راحت كتاباً بعد آخر تتصفى من هجنة حضور لغات كالفرنسية والاسبانية والايطالية والارجنتينية في هواجسها، كاتبة وقارئة، متابعةً ما يصدر فيها من عناوين. ما بقي من «امتزاجها» اللغوي/ الحضاري وهمّها بتأسيس نص يشبهها بالعربية، هو تلك اللغة الشعرية المسننة المقطّعة، بالجُمل التي تشبه انكسارات المرأة والتراكيب التي تبعد عن مألوف شعرنا.

غامرت بكُتب
وعناوين ارتبك أمامها قراء الحداثة
هكذا غامرت زوين بكُتب وعناوين ارتبك امامها قراء الحداثة، وارتبكنا، اذ عملت على فكفكة البنية النصية في اشتغالها على قلق الذات ودمار العالم، ناقلة طعم الرماد الى شكل النص ذاته. احتفت بالقليل المذرّى من مشاهد البيت، والمناظر والطبيعة الجامدة والحالات الداخلية، مدرجة اياها في سياقات من البرودة والتجفيف بملح مختبرها وادواتها الخاصة. قصائد تجريبية تصدر عن مخيلة قاسية تجس حرارة الموجودات، وتغمض بأصابع رؤوفة عيناً واحدة، لا عينَيْن، لكل ما يتحرك ولا يتحرك داخل القصيدة، لئلاً أقول العالم. «في الامس ابتلعتُ/ نجوماً. واحرفاً في الامس/ ابتلعتُ./ من ذهب تلك الاحرف/ واحرفاً من نار./ الا اني مددتُ ذراعي حتى الافق لعلي ارى./ فوقعتُ في قلب البياض» (مجموعتها «هي التي أو زرقاء في قلب المدينة»). لغة بين الابيض والرمادي تعلن غيبوبة الحياة وخدرها، وتقطع النبض في صدر المكان. المكان/ الجسد، المكان/ اللغة، المكان/ الحبيب، المكان/ السفر، المكان/ الآخر، والمكان/ السؤال الشعري الذي بقي يقض القصيدة عليها.
بسبب التجريب المتواصل لمجموعاتها، وعدم الاستكانة الى خلاصة أو لغة ذات سمات قاطعة، محددة، تسهّل على القارئ أو الناقد التفاعل معها وبالتالي الاضاءة عليها، لم تنل بعض كتبها متابعة صحافية حثيثة. بذلك، تعود دائرة نبذ المغايرة وسوء الفهم معها لتطاول جيل المغامرين والمغامرات في القصيدة الجديدة والثقافة الناقدة في مواجهة تكلس الفرد الدينيّ وتوحش الجماعات الاصولية الى اي دين او مذهب أو عقيدة زمنية انتمت.
رحلت صباح زوين من دون ازعاجنا بخبر مرضها ومعاناتها. لطالما حسبناها صلبةً كالرمح. غريبةً كلغتها في القصيدة العربية ما بعد الحديثة. تغيب المترجمةُ، ايضاً، لتقول الحياة بلغة لم تعمل عليها سابقاً الا كموضوع أو محفّز لاوع للابداع. لغة التراب تُعلن الشاعرة اليوم حرةً ببهاء العبث، لكنّ «بيتها المائل والوقت والجدران» سيعمّر في الديوان العربي، ما دام للعرب مستقبل وللشعر فيه بيتٌ، ولو «مائلاً». صباح الانيقة كزاوية في حرف لاتيني، الوداع. والى الأعمق في قلب الارض.
* شاعر وإعلامي لبناني