مع وفاة غابرييل غارسيا ماركيز (1937 ــ 2014)، استُعيد الحديث عن «الواقعية السحرية» بعد نسيانها لسنوات، حتى ضمن أدب أميركا اللاتينية. وقد لا تكون ثمة قسوة في القول إنّ وفاة ماركيز كانت نقطة النهاية لهذه المدرسة الأدبية، وهذه «الظاهرة» التي لا تزال لها أصداء عربية باهتة. من جهة أخرى، كانت وفاة ماركيز فرصة لاكتشاف أسماء أخرى في أدب أميركا اللاتينيّة بعيداً من منطق الأسماء الرنانة، وفرصة أخرى لاستعادة أسماء غيبها التناسي المتعمد أو الكسل القاتل للمترجمين عن اللغة الإسبانية. ليس ماركيز أو إيزابيل الليندي أو حتى ماريو فارغاس يوسا الممثّلين الوحيدين لأدب أميركا اللاتينية. ثمة أسماء أخرى مهمة، سواء كانت بالقدر ذاته أم لا؛ المهم هو إغواء الاكتشاف، ولو كان متأخراً.
ليس ثمة سبب مفهوم لتجاهل كارلوس فوينتس (1928ــ2012) عربياً. ربما كان الملف الذي نشرته جريدة «أخبار الأدب» المصرية قبل عشر سنوات تقريباً عنه هو المحاولة الأولى لكسر رتابة الأسماء المعتادة. بدا فوينتس حينها بمثابة اكتشاف رغم أنّ ذلك الملف كان يضم خلاصة لأربعين عاماً من مسيرته الكتابية. ربما كان السبب سياسياً؛ إذ إنّ نقّاداً عديدين يعتبرون فوينتس أقرب للمعسكر «الليبرالي» رغم اعتدال أفكاره السياسية. أو ربما كان ذلك بسبب انقلابه المفاجئ ضد كاسترو الذي كان، ولا يزال إلى حد كبير، أيقونة لمعظم كتّاب أميركا اللاتينية. ليس ثمة سبب آخر يمكن توقّعه، فأدب فوينتس لا يقل أهمية عن أدب ماركيز مثلاً. بالطبع، تبدو الجملة السابقة أقرب لحُكم قيمة نسبي، لكنّ أعمال الرجل وحضوره العظيم تشهد له عالمياً. قصص قصيرة متناثرة، وروايات قليلة هي كلّ الحصيلة العربيّة من أدب فوينتس، وهي لا تكفي بالطبع للمقارنة مع الحضور الساحق لمجايليه والأجيال اللاحقة من الروائيّين.
لا يندرج أدب فوينتس ضمن مدرسة بعينها، كما أنّه لم ينظّر يوماً لمدرسة مستقلة. يكاد كلّ عمل أن يكون مستقلاً بشكل كامل عن الأعمال الأخرى أسلوباً وسياقاً وعالماً، بصرف النظر عن التفاوت في هذه الأعمال. وبذلك تبدو روايته القصيرة «أورا» (1962) التي صدرت ترجمتها العربية عن «منشورات الجمل» و«طوى» (ترجمة خالد الجبيلي ــ 2013)، بمثابة نقطة انطلاق إلى عالم فوينتس.

سلطة «الحرس القديم» طاغية
في كل سطور كتابه «أورا»
نعود في هذه النوفيلا إلى العالم المغوي للروايات القصيرة في أميركا اللاتينية التي تعد، بدرجة ما، أفضل ما أنتجه الروائيون رغم تكريس الروايات ذات الحجم الأكبر. ليس ثمة ثيمة كبيرة في «أورا». العنوان مأخوذ من اسم الشخصية الأنثوية الرئيسية في الرواية، والحبكة (في مظهرها الخارجي على الأقل) لا تعدو أن تكون حكاية عن أيام معدودة من حياة المؤرخ الشاب فيليب مونترو. ليس المظهر الخارجي هو المهم في «أورا»، فالبطل الفعلي هو التناقض العميق بين الأزمنة المتصارعة، والتداخل المذهل لعالمي الحلم والواقع. ليست رواية واقعيّة سحرية، بل هي أشد عمقاً من هذا التوصيف. كما أنّ الزمن (الفعلي أو الروائي) ليس الساعات أو الأيام المتعاقبة، بل هو الفسحة الشفيفة المغوية بينها. إنه المسافة اللامرئية التي لا يمكن إدراكها بالنظر إلى آثار الزمن، بل هو زمن آخر؛ زمن يشبه تتالي اللحظات البطيئة عند الضرير، حيث اللمس وغواية الاكتشاف هما المتعتان الفعليتان للإنسان.
هذه الرواية تحكي قصة سلطة الزمن وسطوته القاسية عبر تناغم الأضداد بين الماضي وما سيكون المستقبل، من دون أن يكون الحاضر أكثر من مرحلة انتقاليّة عابرة. المستقبل هنا ماض آخر، لأنّ غبار الماضي انتصر في النهاية، ولأنّ سلطة «الحرس القديم» طاغية في كل سطور الرواية، حيث لا مكان للشباب المثقّف إلا إذا تروّض وأدرك استحالة المقاومة واعتاد قيوده. «سيكون هذا البيت غارقاً في العتمة على الدوام، ويجب أن تتعلم جنباته». ليست العتمة مكانية فحسب، بل موغلة في كل تفاصيل الحيوات المتعددة للشخصيات. لا منتصر سوى سلطة العسكر التي تتسلّل بصمت لترسم نهاية الحكاية/ اللعبة. وليس المظهر المغوي للمدنيّة إلا قناعاً زائفاً للأشياء والأمكنة والأزمنة التي سترتدي (أو تعيد ارتداء) البزّة العسكرية القديمة، لينتصر الجنرال في لعبة الزمن. ليس ثمة ملجأ أو منفى حتى في الأحلام؛ فالحلم امتداد أشد قسوة للحاضر. إنه مرآة أخرى أكثر تحدّباً.
ليست «أورا» رواية سياسيّة رغم الخيوط السياسية الخفية المشغولة بإتقان. كلّ توصيف سيكون قاصراً عن الإحاطة بهذه الرواية/ الملحمة رغم قصرها. «لا شيء لك»: هذا ما يقوله الراوي حين يخاطب البطل/ الضحية فيليب مونترو. وهذا، بالضبط، ما تقوله هذه الرواية منذ أكثر من نصف قرن، وما يقوله فوينتس، وما تقوله العقود الطويلة التي رسمت ملامح أميركا اللاتينيّة، وبلاد الجنوب.




الدبلوماسيّ اللامنتمي

ربما كان للمصادفة التاريخيّة سبب في صعود اسم كارلوس فوينتس. ترافق صدور الرواية الأولى لفوينتس «حيث الهواء صافٍ» (1958) مع بدايات بركان رواية أميركا اللاتينيّة في أوائل الستينيّات. جعلته هذه الرواية كاتباً محتفى به، وأبعدته بشكل شبه نهائيّ عن الحياة الدبلوماسيّة التي كان يعدّ نفسه لها. أصبحت الروايات (التي قاربت 25 رواية) هي جواز السفر الجديد للدبلوماسي اللامنتمي، ومبعوثه الدائم إلى لائحة الترشيحات السنويّة لجائزة «نوبل». كانت السياسة، بالتأكيد، ممراً إجبارياً له، ككل كتّاب أميركا اللاتينيّة، حيث دخل معارك كثيرة، بخاصة منعه في الستينيّات من دخول الولايات المتحدة الأميركيّة. الفارق الوحيد هو أنّه اختلف مع فيديل كاسترو، وهذه علامة فارقة ضمن تيار روائيّي أميركا اللاتينيّة. بل ربما كان هو الكاتب الوحيد الذي كان داعماً لثورة كاسترو، ثم انقلبت عليه الثورة لتعتبره «خائناً» بعد سنوات قليلة بسبب خلاف على قضيّة الحريّة بذاتها. لم تنجُ أية شخصيّة سياسيّة بارزة من تعليقاته الحادة، إذ وزّعها بالتساوي بين اليمين واليسار. من رونالد ريغان، إلى هوغو تشافيز وجورج بوش الابن، كانت قنابله الكلاميّة تنهال بقسوة، بينما تتلاحق معها «قنابله الفعليّة»، كما يحلو له أن يسمّي كتبه، لتكرّسه كأحد أهم كتّاب القرن العشرين. ما يقارب 25 رواية أهمها «موت أرتيميو كروز» (1962)، «الغرينغو العجوز» (1985)، وصولاً إلى روايته الأخيرة التي نُشرت بعد وفاته «فيديريكو على شرفته» (2012)، و10 مجموعات قصصيّة، ومثلها من السيناريوهات، عدا عن كتب عديدة في المسرح والمقالة، كانت حصيلة الحرب الدائمة لهذا المكسيكيّ العنيد.
يزن...