يعيد الكوريغراف علي شحرور مساء الغد وبعده تقديم عرضه الأخير «فاطمة» مع رانيا الرافعي وأمامة حميدو على خشبة «مسرح المدينة» (30/12/2014 ). قدم العمل للمرة الأولى على الخشبة ذاتها في شهر كانون الثاني (يناير)، واليوم تعود الفاطمتان إلى الرقص فوق الركح بعدما امتلأت صالة «مسرح المدينة» بالجمهور خلال العروض السابقة. لذا، جاء عرض الغد وبعده تلبيةً لرغبة مَن لم تسنح له فرصة الاحتفال بجسد المرأة الفاطمية آنذاك.
امرأتان تستمدان من آلام نساء الأرض نبضاً لحركة جسدهما المتشح بالسواد على الخشبة. من مراسم العزاء واللطم إلى مراسم الفرح والرقص، يستعير الثلاثي (الكوريغراف والراقصتان) حركة جسد المرأة المتحرر من قيود المجتمع الشرقي المتحفظ. وإذا كنا قد أشرنا سابقاً إلى أهمية تطور كوريغرافيا علي شحرور التي غاصت في بحث أنضج حول حركة الجسد المشرقي، وهو اليوم يحضّر لعرض جديد بعنوان «عتب» يتمحور حول مراسم الاحتفال بالشهادة، فإننا اليوم سوف نتوقف عند نوع الطرح الفنّي ضمن السياق الاجتماعي.
لا يخفى على أحد أنّ عدداً من الجمهور توجه إلى «مسرح المدينة» يوم العرض الأول لـ«فاطمة»، منتظراً أن يشاهد عرضاً عن فاطمة الزهراء ابنة الرسول وزوجة الإمام علي، وما لذلك الاسم من وقع في الثقافة الإسلامية. وبالفعل، لم يعمد شحرور إلى تضليل الناس. اختيار عنوان العرض ولد من الأبحاث التي أجراها الثلاثي حول أشهر النساء في التاريخ اللواتي لازم الألم سيرهن. وإذا كان البحث قد شمل نساء أخريات مثل ميديا وأنتيغونا وإلكترا، وصولاً إلى أم كلثوم، واستُلهمت المواقف والأحاسيس من سيرهن، إلا أنّ الخيار وقع على اسم «فاطمة». وإذ يبدو ذلك الخيار بديهياً نسبة إلى لغة الجسد الشرقية في العرض، ما يحول أمام إطلاق اسم إغريقي على أولئك النساء، إلا أن في ذلك الخيار ما هو أبعد من ذلك.
الفاطمتان على المسرح تنطلقان من اللطم: حركة مستقاة من المراسم الشعبية/ الدينية في العزاء والتعبير عن الحزن، إلى الرقص البلدي على أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم (ألحان عبد الوهاب)، ثم العودة إلى الموت والعزاء في المشهد الأخير، مع اختتام العرض بـ «الفاتحة».
ببساطة، يمكننا أن ندعي أنّ اسم فاطمة شائع في العالم العربي، ولا يمت بصلة لأي شخصية دينية، وكلمة «الفاتحة» لا يمكن حصرها بسورة الفاتحة في القرآن، بل قد تكون فاتحة لقراءة ما بعد العرض.
لكن ذلك التبسيط يفقد الكثير من الطرح السياسي/ الاجتماعي الذي يحمله العرض. لجوء الثلاثي إلى اعتماد مراجع دينية إسلامية في العرض ضمن ما نعيشه اليوم في العالم العربي من صعود للحركات الأصولية والتكفيرية، يمكن قراءته كمقاربة مغايرة لا بل مقاومة لمفهوم جسد المرأة وحركتها في المجتمع المشرقي والإسلامي.

تحضير لعرض جديد
بعنوان «عتب» يتمحور حول مراسم الاحتفال بالشهادة

نعم فاطماتنا تندبان وتلطمان، لكنهما أيضاً ترقصان وتفرحان. نعم فاطمتانا تكشفان عن رأسيهما وتسدلان شعريهما وتقفان على المسرح في العلن أمام الجمهور. حينما خلعت الممثلة حنان الحاج علي حجابها في مسرحية روجيه عساف «جنينة الصنائع» (١٩٩٧) وظهر حجاب آخر تحت حجابها، كان ذلك فعلاً سياسياً يؤكد ترسخ الخيار الديني والسياسي في ارتداء الحجاب. أما اليوم، فأن تلطم فاطمة وترقص على المسرح، ففي ذلك أيضاً موقف سياسي واجتماعي من موقع جسد المرأة المسلمة في مجتمعاتنا. علي شحرور ورانيا الرافعي وأمامة حميدو ينتمون إلى جيل ما بعد الحرب الأهلية الطائفية. هم يعيشون اليوم وسط نمو التطرف الديني في مختلف العالم العربي. وإذا كنا في لبنان، أو لنقل على الأقل في بيروت نتغنّى بانفتاحنا، إلا أنّ المسرح اللبناني يتفادى حتى اليوم النقد الديني، وجزء كبير منه يعود إلى دور رقابة الأمن العام المسبقة على الأعمال الفنيّة، وتدخّل السلطات الدينية في دور الرقابة وفرض المحظور. لحسن الحظّ ألا رقابة حتى اليوم على أعمال الرقص في لبنان، فالرقابة المسبقة تجرى على النصوص و«لا نصّ» في عروض الرقص، إلا أنّ «فاطمة» تفلّتت من مقص الرقيب ورقصت على الخشبة. هل في ذلك مسّ بالمعتقدات الدينيّة؟ طبعاً لا، بل هناك مسّ في احتكار الديانات لأجسادنا، وتقديم أجساد حرّة على المسرح. علماً أنّ حركات الراقصتين على المسرح مستوحاة من الحركة الطبيعية لأجساد النساء في مجتمعاتنا المتزمتة أم المتحررة منها، لكنها تمثل اليوم على الخشبة إعلاناً لحرية جسد المرأة في مواجهة الأصوليات الكثيرة.

* «فاطمة»: 20:30 مساء الغد وبعده ـ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/341470




عن مشروعه الجديد

يتابع علي شحرور (1989) بحثه عن حركة الجسد في مراسم العزاء. بعد الانتهاء من عرض «فاطمة» في «مسرح المدينة»، يبدأ العمل على عرضه الجديد «عتب» (مؤقت) حول الشهادة. مرّة جديدة يختار الكوريغراف الشاب أن يبحث داخل إطار حركة الجسد المشرقي، متخلياً عن مدارس الرقص المعاصر الغربية. مؤدو العرض الجديد هم نساء ورجال من ضاحية بيروت الجنوبية، ومن القرى اللبنانية الجنوبية، ممن امتهنوا مهنة الندب في الجنازات والغزوات. تقاليد غنيّة جداً بطقوسيتها ومفرداتها اللغوية والجسدية، يعيد شحرور إحياءها في عرضه الجديد مع ندّابين سابقين سيغنون ويرقصون على المسرح. وعن اختيار موضوع الشهادة، يقول علي شحرور لـ«الأخبار»: «إن تمازج طقوس الفرح والحزن في رثاء الشهداء، واضمحلال الحدود بين تلك المشاعر النقيضة أثار اهتمامي». ما علينا سوى الانتظار حتى أواخر شباط (فبراير) ٢٠١٥ لمشاهدة العرض.