الرباط | في بيته في الرباط، رحل المفكر المغربي المهدي المنجرة (1933 ــ 2014) يوم الجمعة الماضي بعد صراع طويل مع مرض الباركنسون الذي أقعده لأكثر من سنتين. المثقف الموسوعي رحل بصمت، مخلّفاً إرثاً فكرياً، يحفر في مجالات التنمية والثقافة والاقتصاد. إرث دافع عن حق العالم الثالث في المعرفة والحياة ضدّ ما كان يسمّيه بهيمنة الـ«ميغا إمبريالية».
خلال مساره الفكري، واجه الراحل مقاومةً تختزلها العبارة الشهيرة عن نبي الحي الذي لا يطرب. غالباً ما لم يكن يطرب لدى المؤسسات الرسمية في بلده. خريج «جامعة كورنيل» الأميركية، حيث حصل على الإجازة في البيولوجيا والعلوم السياسية وخريج «جامعة لندن» حيث حاز الدكتوراه في الاقتصاد خلال الخمسينيات، ألغت السلطات المغربية العديد من الندوات التي كان يفترض أن يقدمها في كليات ومعاهد مغربية خلال السنوات الأخيرة. ظل مغيباً عن كثير من القضايا التي يعتبر من مؤسسي فكرها على المستوى الدولي، خصوصاً قضايا التنمية والتعليم.
عبر تحصيله العلمي، راكم المنجرة دراسات جمعت بين البيولوجيا والكيمياء والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والسياسية. كان من أوائل الأساتذة المغاربة في الجامعة المغربية، إذ كان أول أستاذ محاضر مغربي في «جامعة محمد الخامس» في الرباط. وشغل منصب مدير الإذاعة والتلفزة الحكومية بعد الاستقلال قبل أن يستقيل منها في بداية الستينيات. كان الراحل هو المفاوض الأساسي للمالكين الفرنسيين لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون، خلال صفقة اقتنائها.
في نهاية الخمسينيات، انطلقت مسيرة الرجل المهنية على المستوى الدولي. عمل في منظمة الأمم المتحدة كمستشار أول في الوفد الدائم للمغرب في المنظمة الأممية (1958ــ1959) قبل أن يتقلّد مناصب بارزة عدة، وشغل مناصب عدة في الأونيسكو. حاضر في «جامعة لندن» للاقتصاد (1970)، وترأس «نادي روما» في الثمانينيات. وهو النادي الذي أصدر في بداية السبعينيات أولى الدراسات والأبحاث حول مفهوم التنمية كما تقارب في الدراسات الاجتماعية والاقتصادية حالياً. مفهوم صار يركز في الجانب البشري ومعطيات أخرى خلافاً لمعدلات النمو الاقتصادي التي كانت الأهم في المنظور التنموي خلال تلك الحقبة. الأبحاث نتج منها كتاب «من المهد إلى اللحد» (1981) الذي ترجم إلى أكثر من 15 لغة، وقارب مسائل التعليم والتنمية.
اجتهادات الباحث الذي كان من مؤسسي شعبة الدراسات المستقبلية ظلت «حبيسة» أوراق قدمها في منتديات دولية ولجان علمية أوروبية وتابعة للأمم المتحدة. وبينما وجدت خبرته آفاقاً أوسع في دول غربية تبنته واستدعت خبرته في لجان لبلورة سياسات رسمية، بقي مغيّباً عن الدائرة المغربية التي انطلقت فيها مشاريع تنموية أطلقت تحت تسميات مختلفة، وأرادت ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء. ظل المنجرة مغيباً ربما بسبب جرأته في تشريح الوضع المغربي، وطريقته في الكلام التي كانت تغلب عليها «قسوة» الجامعي الموضوعية، على الخطاب السياسي المهادن.
ولهذا، رفض عروضاً لمناصب وزارية في البلد وفضل البحث والتأليف المعرفي. أصدر «الحرب الحضارية الأولى» (1991)، و«عولمة العولمة» (1999)، و«انتفاضات في زمن الذلقراطية» (2002) و«الإهانة في عهد الميغا إمبريالية» (2004)، وآخر كتبه «قيمة القيم» (2007).
حازت جهود الراحل المعرفية كثيراً من التقدير والجوائز الدولية من ضمنها: «ميدالية السلام» من «معهد ألبرت إينشتاين» و«الجائزة الكبرى لأكاديمية الهندسة الفرنسية» و«وسام الشمس المشرقة في اليابان»، إلى جانب عضويته في أكاديميات دولية عدة منها «الأكاديمية المغربية» و«الأكاديمية الأفريقية للعلوم» و«الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون والآداب» و«الجمعية الدولية للمستقبليات» (فورتوبيل). كما كان من مؤسسي ورئيس «المنظمة المغربية لحقوق الإنسان»، وعضواً ناشطاً في «حزب الاستقلال» ومن بعده «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية».
خلال العقدين الأخيرين، استقر المنجرة في المغرب. وظل بيته في العاصمة الرباط مفتوحاً دوماً أمام الجامعيين والطلبة الذين كانوا يزورونه في كل وقت. طلبة من كل الآفاق والتوجهات السياسية كانوا يبادلونه الحديث. ينصت لهم في الأساس ويستمع لصوت المستقبل الذي تبيّن بعض ملامحه قبل عقود. لم يكن يتخذ وضع الأستاذ بقدر ما يحمل صوته دفء الجدّ الحكيم الذي خبر الحياة.
ليس المجال البحثي فقط، من سيفتقد المهدي المنجرة، بل الكثير من أصدقائه المجهولين الذين تقاسموا معه لحظات من المحبة والشغف بالمعرفة. معرفة لطالما دعا الراحل إلى أن تكون من حق الشعوب لأنّها الباب الوحيد لانعتاق الفرد والمجتمعات.