القاهرة | إذا كان فاروق حسني هو وزير الثقافة المصري الأطول بقاءً في منصبه لمدة بدت كأنها عمر شاب يافع (1987 ـ 2011)، فإن جابر عصفور عُرف بأنّه الوزير الأطول انتظاراً للمنصب الذي لم يُعين فيه إلا في اللحظة المصرية الأكثر التهابا والتباساً، أي بعد أسبوع من «ثورة يناير» 2011، وبعدما قبع ينتظر منذ لحظة تعيينه أميناً لـ«المجلس الأعلى للثقافة» في 1993، إلى أن غادره في 2007 إلى رئاسة «المجلس القومي للترجمة»، وهي مدة تبدو بدورها كعمر شاب أصغر قليلاً من الشاب الأول.
لكن على عكس البقاء الطويل لحسني «الوزير والرئيس»، فإن عصفور الذي أساءت الدولة لحظة اختياره، وأساء هو بقبول العضوية في حكومة أحمد شفيق آنذاك، تعرض لضغط ثقافي هائل، كان جزءاً من ضغط أشد وطأة خضعت له الدولة كلها آنذاك. قدم استقالته في 9 شباط (فبراير)، قبل يومين فقط من تنحي مبارك. حتى في لحظة الاستقالة، كان التعلل بالأسباب الصحية هو «موقفه» مما كان يجري في مصر آنذاك، وقيل إنّ ذلك تصرّف يليق بنفسية تعودت على «الوظيفة»، وهي ـ ككل الموظفين ـ تعتبر أنّ اللاموقف نوع من الحكمة.
لكن من ناحية أخرى، ثمة من رأى أنّ نوعاً من رد الاعتبار قد جرى إلى «نهج» عصفور، أحد أشد معتنقي مفهوم «الإصلاح من الداخل». ها هي مصر كلها تقريباً تلجأ إلى الدولة وإلى قلبها الصلب، في مواجهة الأخونة أو السورنة أو الضعف والتشتيت. ها هي البلاد تختار جنرالاً للمرة الخامسة على رأسها، وبنسبة فوز انتخابي تنتمي إلى أزمنة كان يظن العالم أنها ولت. لماذا يُلام عصفور، على قناعته، منذ البداية، بأهمية «الدولة» في مصر، وباقترانها المحتم بـ«التنوير» في مواجهة «الظلام»؟ الدولة قد لا تكون تنويرية بالضرورة لكن لا تنوير من دونها. هكذا رأى مثقفون عملوا من داخل الدولة، لا بقصد إصلاحها، بل بقصد إصلاح المجتمع من خلالها، أليس منهم أيضاً علي أبو شادي، الذي خلف عصفور لعامين في موقع أمين «المجلس الأعلى للثقافة»؟ أبو شادي تماماً كسلفه لا ينفك ينتقل من هذا الموقع الحكومي إلى ذاك، محتفظاً في الوقت نفسه باعتباره وأهميته كمثقف؟ وألم يقدم هذا النموذج «مثقف الدولة شبه المستقل» الكثير مما كان يستحيل تقديمه من «خارج الدولة»؟

وزير الثقافة الجديد... ما أشبه
اليوم بالبارحة

سلاسل ثقافية وكتب بأسعار زهيدة وترجمات غزيرة ومهرجانات مكلفة وغيرها مما لم يكن ممكناً دعمه من دون يد الدولة؟ أليس كل هذا ومنه مشاريع طبعت ملايين النسخ، أفضل من الطنطنة من «الخارج»، خارج الدولة؟ لكن هذا المنطق القوي كانت تجادله حقيقة مفادها أن كل ذلك لم يمنع التطرف أن يستمر وينتشر، وأن يحسم الكثير من معارك الأفكار.
وأيا كان، فإن عودة عصفور أخيراً إلى مقعد الوزارة، ربما تحتسب «مرة ثانية» بلغة الأرقام. لكن المرة الأولى في تلك الأيام القليلة المهتزة أثناء «ثورة يناير»، لا يمكن أن تحسب بلغة العمل والإنجاز. سيكون وجود عصفور في مقعد الوزارة هو الجلوس الأول بلغة المنطق والإنصاف. أما بلغة السياسة، فقد يشير إلى طبيعة يبدو أنها تسم عصر السيسي، الذي يشبه كثيراً منطلقات عصر مبارك، لكن في لحظاته الأخيرة، لحظات الإحساس بالخطر.