بغدادعراق ما بعد 9 حزيران (يونيو) 2014 لن يشبه ما قبله. هو يحمل العديد من العلامات اثر احتلال مدينة الموصل ودخول تنظيم "داعش" إليها، منها أنّ الأحداث الجارية نكأت مجدّداً الجرح الطائفيّ الذي هدأت آلامه لفترة. لكنه عاد اليوم ليهدّد بقوّة وحدة المجتمع وتآلفه. البلاد أمام خيارات عدة، ليس أولها الدخول في حرب استنزاف طويلة، إن لم يسارع الجيش العراقي إلى ردع التحرّكات المجنونة والظلاميّة لـ "داعش"، وضمنها استثماره للخلاف السياسيّ الحاصل بين ممثّلي المكوّنين الرئيسيين في بلاد الرافدين.

الحاجة ماسة إلى تشكيل حكومة جديدة تراعي مخاوف جميع الأطراف المحليّة وتدفعها إلى تقديم تنازلات متبادلة تبقي العراق بلداً موحداً. عكس ذلك يعني وضع مشروع تشكيل الأقاليم في العراق، على طاولة البحث بين ساسة المكوّنات الثلاثة الرئيسة في البلاد.
علامات أخرى، أتت بها عاصفة "الموصل" وما تلاها. إنّنا بحاجة ماسة إلى مكاشفة حقيقية بين العراقيّين جميعاً، هل إنّهم قادرون على إيجاد صيغة للتعايش السلميّ والمضي في بناء بلد يحكمه الدستور وقيم المواطنة الحقّة؟ مع أسئلة أخرى مؤجّلة في خضم الأزمة الحالية، أهمّها مدى إمكانيات مراجعة الأسس المعتمدة منذ 10 سنوات في بناء القوات الأمنيّة العراقيّة وتصحيح أخطائها.
ليست الأنفس والأذهان من اجتاحها الرعب والقلق على خارطة العراق ودماء أهله. الأسواق اشتعلت في شوارع خائفة وليل أعزل. وبعض التجار الجشعين استغلوا الظرف الحرج ورفعوا أسعار المواد الغذائية.
المؤسف أنّ بعض المثقفين وقع في الفخ الطائفي، وكان الفايسبوك الميدان المرئي لهذا التراجع. هنا يرصد مثقف جميع الأخبار التي تشير إلى تصفية هذه الجهة لأبناء طائفته، في حين ما من إشارة في صفحته تستنكر جريمة إعدام «داعش» لـ 1700 طالب من كلية القوة الجوية في تكريت، كلّهم من انتماء طائفي واحد. وعلى الطرف النقيض، ثمّة من استسهل شيطنة محافظات بكاملها، لا لشيء سوى أنّ الإرهاب استفاد من أخطاء الحكومة بحقّها وتغلغل في بيئتها الاجتماعيّة. أنموذج من نخبة تركت البحث في الحلول والمسببات وذهبت إلى النتائج.
بعيداً عن رومانسيات الشعراء وأحلام المثقفين الورديّة، علينا أن نفكّر طويلاً بردود أفعال عراقيّين تأتي من مواطني الطائفتين الأكثر تطرّفاً وشعوراً بالقهر؛ لبيان خطورة الوضع والأثمان الباهظة لتفجّره التام. مثلاً أن يقول طاعن في السن من أهل بغداد في جانب الرصافة، "يكفيهم إنّهم حكمونا لـ 80 عاماً، واليوم يسكتون عن المفخخات التي تقتلنا يوميّاً، إن لم يكن بعضهم قد أسهم في قتل أبنائنا فعليّاً"، وهو أب لشابين قضيا بتفجير انتحاري، لم تبق من ذكراهما إلا صورة واحدة معلّقة على عمود للكهرباء وسط الشارع. كذلك، علينا أن نتأمّل طويلاً ما يذكره صديق لصديقه، الأوّل يسكن الموصل، والآخر يعيش في العاصمة، بالقول: "لنكن صريحين من دخل المحافظة من "المسلحين والثوار العراقيّين" أكثر رحمة بنا من الجيش الذي كان متواجداً على أرضنا، وأبدع في تصفيتنا وإذلالنا لأسباب مذهبيّة بحت".
ولعلّ العبارة التي كتبها الشاعر زاهر الجيزاني في الفايسبوك، تختصر الكثير من الأزمة الحالية وعمقها المجتمعي:"كانت الكراهية هامدة، خامدة، مختبئة، صامتة، كشبح مرعب ينتظرنا. ما الحل، كيف نقضي على الكراهية الطائفيّة والقوميّة والدينيّة، هناك من قال الحبّ وحده المؤهل للقضاء على الكراهية كلّها، أوّل من قال ذلك السيّد المسيح- أحبّوا أعداءكم صلّوا من أجل مبغضيكم".