ركّز المحامي والقاضي اللبناني سابقاً جو خوري ـ حلو في كتابه الصادر بالفرنسية «شارل حلو: هاملت اتفاق القاهرة» Charles Helou: Hamlet de L’Accord Du Caire الذي نشرته «جامعة القديس يوسف» أخيراً على أنّ «اتفاق القاهرة» الذي وُقِّع بين القيادة السياسية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية عام 1969 خلال رئاسة شارل حلو للجمهورية، فُرض عليه فرضاً بسبب ضغوط الدول العربية وحلفائها في السلطة اللبنانية بالاضافة الى تقاعس أميركا في دعم حلو. بالتالي، جرى التوقيع على الاتفاق في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1969 رغم محاولات الرئيس اللبناني آنذاك الذي كان مدعوماً سراً من «الحلف الثلاثي» الذي قاده رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون، وعميد «الكتلة الوطنية» الراحل ريمون اده، ورئيس «حزب الكتائب» بيار الجميل.
هؤلاء كانوا يقودون جبهة ضد مجموعة «النهج» التي قادها الرئيس فؤاد شهاب، ورئيس الوزراء في فترتي شهاب وحلو رشيد كرامي، والوزير فؤاد بطرس والرئيس رينيه معوض. مع أنّ هؤلاء السياسيين رحلوا (باستثناء بطرس)، إلا أنّ قضية «اتفاق القاهرة» مع المقاومة الفلسطينية تُطرح مجدداً حالياً في علاقة السلطة اللبنانية في هذه المرحلة مع المقاومة اللبنانية للاحتلال الاسرائيلي التي يقودها «حزب الله» بعدما قادتها في انطلاقتها «الحركة الوطنية اللبنانية».
يعتبر خوري ـ حلو أنّ عمليات المقاومة الفلسطينية من الجنوب اللبناني في الستينيات والسبعينيات ومطلع الثمانينيات، لم تعرّض لبنان فقط للحرب الأهلية بل للغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 ولاخراج المقاومة الفلسطينية منه بالقوة وارتكابه مجزرة صبرا وشاتيلا وغيرها من الفظائع. هذا ما نبّه خاله شارل حلو (1913 ـ 2001) إلى إمكان حدوثه. لكن الرئيس حلو ــ وفق الكتاب ـ لم ينجح في افشال توقيع «اتفاق القاهرة» عام 1969، وبالتالي لُقِّب بالرئيس الضعيف، فيما كان هو (برأي الكاتب) رئيساً قوياً لكنه عمل في السرّ عبر التفاوض الدبلوماسي المستمر مع السفير الأميركي آنذاك في لبنان دوايت بورتر. ويتضمن الكتاب عدداً من النصوص والوثائق عن مراسلات السفير بورتر مع حكومته ووزارة خارجيته التي تشير الى وقائع لم يكن يُسمح بنشرها سابقاً، لكن «مكتبة الكونغرس الوطنية» سمحت بنشرها بعد مرور 40 عاماً على انتهاء وضعها في المحفوظات السرية.
هناك خياران إما مقاومة اسرائيل أو ترسيخ مقولة «قوة لبنان في ضعفه»

وأشار المؤلّف الى أنّ الرئيس حلو أفضى اليه بمعلومات لم تنشر، خصوصاً في ما يتعلق بالصعوبات التي واجهها في علاقته مع عرّابه وحليفه السابق الجنرال فؤاد شهاب. ويشير خوري ـ حلو إلى أنّ الجنرال شهاب الذي كان مقرباً من الرئيس المصري جمال عبد الناصر والمواقف العربية لم يدعم خلفه شارل حلو دعماً كاملاً في مواقفه من المقاومة الفلسطينية رغم حرصه على الجيش والسيادة اللبنانيين. قدّم حلو استقالته من الرئاسة، ثم تراجع عنها عام 1968 لعجزه عن تنفيذ سياساته بالنسبة إلى ضبط المقاومة الفلسطينية في لبنان وعجزه عن تجاوز مواقف شهاب وسلطته المستمرة لدى قيادات نهجه على رأسهم رشيد كرامي وفق الكتاب.
وبعدما وُقِّع «اتفاق القاهرة»، اتجه الرأي العام اللبناني ـ وفق المؤلف ـ الى اتخاذ مواقف تتهّم حلو بأنه أسهم في تسلّح المقاومة الفلسطينية لتقود المعركة ضد اسرائيل وروّج لتوقيع «اتفاق القاهرة» الذي شرّع هذا الأمر، وبالتالي تقاعس في دوره كرئيس للسلطة اللبنانية وكممثل للجهات التي تؤمن بأولوية الدولة اللبنانية، وخصوصاً الطرف المسيحي. وبالتالي، صار شارل حلو (اعلامياً) مسؤولاً عن انهيار السلطة اللبنانية ووقوع الحرب الأهلية عام 1975 فيما بذل حلو ــ وفق ابن اخته ــ كل ما في وسعه لمنع ذلك.
أكّد جو خوري ـ حلو أنّ وسواس خاله كان عدم اقحام لبنان في حرب مع اسرائيل، خصوصاً لعدم قدرته العسكرية على خوض الحرب. وكان حلو يسعى (برأيه) الى إقناع القادة العرب، بمن فيهم جمال عبد الناصر بالفصل بين اقحام لبنان بين دول المواجهة مع اسرائيل ومفهوم أنّ لبنان دولة داعمة لهذا الامر فقط بسبب أوضاعها الخاصة. وقال الكاتب إنّ عبد الناصر أدرك هذا الواقع وتعامل معه بواقعية وارسل مبعوثين مصريين الى لبنان في محاولة للتعامل الواقعي مع الازمة.
ويشير خوري- حلو الى أنّ اسرائيل كانت سعيدة إلى حد ما بانطلاق مقاومة فلسطينية من الاراضي اللبنانية كي تبرّر ردود فعلها العسكرية على عمليات هذه المقاومة، ولكي تؤدي العمليات بين الجانبين الى تحرير اسرائيل لنفسها من اتفاقية الهدنة مع لبنان التي وُقعت عام 1949. وكان شارل حلو يخشى أن تتنصّل الأمم المتحدة من هذه الاتفاقية بحجة العمليات العسكرية في جنوب لبنان فيما سعى هو الى تمديد فترة عمل قوات الامم المتحدة الدولية في الجنوب اللبناني. وكان الرئيس حلو يرى بأنّ ضحايا هذه التطورات السلبية الرئيسيين سيكونون اللبنانيين، وخصوصاً المسيحيين اللبنانيين والشرقيين.
ويورد الكتاب أنّ قلق شارل حلو ازاء عمليات المقاومة الفلسطينية من الارض اللبنانية تحوّل الى هاجس. حاول انشاء تيار شعبي في لبنان يعارض هذه العمليات، ما أغضب خصومه الداخليين، وفي طليعتهم رشيد كرامي الذي صار يعرقل عمل حلو، بدعم من حليفه فؤاد شهاب. وبالتالي، توالى تأليف حكومات واستقالتها لفترات طويلة كرد فعل على مواقف حلو. كما تفاقمت الأمور مع مجيء أعداد جديدة من اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان بعد حرب 1967، وتزعزع ثقة الجماهير العربية عموماً بالقادة العرب وبالجيوش النظامية وتقلّص إيمانهم بقدراتها وازدياد تمسكهم وثقتهم بالمقاومة الفلسطينية خلافاً لتوجهات الرئيس حلو. وجاءت صعوبة القيام بعمليات ضد اسرائيل من هضبة الجولان التي اصبحت محتلة، ما شكل عاملاً إضافياً للتركيز في أهمية القيام بعمليات من الحدود اللبنانية، وفق ما قال المؤلف.
في النهاية، يخلص الكاتب إلى أنّ القضية اللبنانية سياسية، تتلخّص في خيارين: إما مقاومة اسرائيل الساعية الى احتلال الاراضي والهيمنة وبناء المستوطنات والاستيلاء على الثروات وعدم اعطاء الفلسطينيين حقوقهم، أو الهدنة معها خوفاً من جبروتها العسكري، وسعياً الى ترسيخ مقولة «قوة لبنان في ضعفه» كما كان يراه ويتمناه مؤسس «حزب الكتائب» الراحل بيار الجميل، والى حدّ ما، شارل حلو، وعدد من الاحزاب والقيادات اللبنانية الحالية.
شأنه شأن كثيرين من قادة لبنان والعالم العربي الحاليين والسابقين، فإنّ شارل حلو علّق آماله على تدخل قيادة أميركا لدعم سياساته المتناغمة مع سياساتها، لكنه لم يحصل عليه لأن مصالحها كانت أهم بالنسبة اليها من الأمور الأخرى. وبالتالي، فان خيارات الجنرال فؤاد شهاب كانت أكثر واقعية كونها تتناغم مع مبدأ التعامل مع القضايا الصعبة بوطنية ومرونة وادراك لمصالح لبنان ولمصالح الجهات الاقليمية والدولية الأخرى في الوقت عينه، بدبلوماسية وذكاء وصبر!