ما يغري في اقتفاء أثر سعاد درويش (1903ـ 1972)، أنها كانت الحب الأول للشاعر الراحل ناظم حكمت. فتاة تنتمي إلى الطبقة الارستقراطية العثمانية وشاعر شيوعي؟ أي سيرة مثيرة؟ لكن لدى ليز بيمهوراس في كتابها «سعاد درويش خانم أفندي» (دار قدمس ــ ترجمة فاضل جتكر) أسبابها الأخرى في كتابة سيرة هذه المرأة المتمرّدة التي شغلت الحياة الإعلامية والأدبية التركية بمواقفها وتقلبات حياتها المضطربة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. ذات يوم، قرأت مقالاً عنها، وبقيت منه خمس كلمات تقرع مثل جرس في ذاكرتها «سعاد درويش امرأة يستحيل إركاعها».
هكذا راحت الكاتبة التركية تنبش في أرشيف المرحلة التي عاشتها صاحبة «إحدى ليالي اسطنبول»، و«مثل الحب»، في الأيام الأخيرة للدولة العثمانية، والأيام الأولى للجمهورية التركية، متكئة على صحف تلك المرحلة، وشهادات مجايليها، ومذكرات وروايات سعاد درويش التي كان معظمها ضرباً من السيرة الذاتية. طفولة مترفة ومراهقة صاخبة لابنة طبيب مقرّب من الباب العالي، وشغف مبكّر بالتمرّد والمغامرة والكتابة.

حتى أنّ ناظم حكمت كتب عنها في قصيدة له «إما أن هذه المرأة مجنونة، أو أنا نفسي، فقدتُ عقلي». ألبوم الصور الذي يؤرخ محطات حياتها يعزّز هذه النظرة. كانت من أولى النساء اللواتي خلعن الحجاب لتستبدله بقبعة أوروبية، قبل أن تتخلى عن الاثنين معاً، في موازاة آراء وأفكار جديدة تحمل توقيعها في صحف تلك الفترة. لم تكن الرقابة الرسمية رحيمة نحوها. لطالما واجهت حرباً شرسة للحد من جرأتها بفرض الحظر على نشر مقالاتها وكتبها. هذه الجرأة التي كانت سلوكاً حياتياً أيضاً، وضعتها في إطارٍ خاص، لجهة الحب واللهو والمغامرة. لم تكن خياراتها العاطفية صائبة دوماً، قبل أن تستقر أخيراً، في كنف رشاد كمال بارنر، الأمين الأول للحزب الشيوعي التركي، شريكة حقيقية كابدت مصاعب جمّة، خلال فترة سجنه التي امتدت إلى تسع سنوات. لكن هذه المحنة، لم تؤثر في لجم اندفاعاتها اليسارية، والمشاركة في التظاهرات، ومحاربة الفاشية، وتأصيل الحركة النسوية بمبادرات جامحة استدعت وضعها تحت مراقبة أمنية صارمة. بموت والدها، فقدت سعاد درويش جدارها الاستنادي المتين. وجدت في رشاد كمال الأب البديل، والمثقف الرصين الذي كان بوصلتها الحقيقية لاكتشاف ذاتها، بعد زيجتين فاشلتين. المرأة المدللة التي ولدت في قصر، انتهت إلى العيش في غرفة مستأجرة في أحد فنادق اسطنبول المتواضعة. الفترة التي عاشتها في برلين، ولاحقاً في باريس، منحتها ثراءً معرفياً وحياتياً، وشهرة كبيرة، إثر ترجمة بعض أعمالها إلى لغة غوته، وستتعاقد معها دار فرنسية لترجمة ثلاث روايات أخرى. هكذا تأرجحت حياة هذه الكاتبة الاستثنائية، بين الإسراف في لذة العيش في مطلع حياتها، والتقشّف والعوز في أواخر أيامها. المرأة التي كانت تثير عاصفة من المرح والغواية والشهوات، أينما حلّت، لم يخرج في جنازتها غير بضع أصدقاء قدامى، واكتفت الصحف التي عملت فيها ذات يوم مثل «جمهوريت»، و«حريت» بخبر صغير عن وفاتها. كأن سيرتها نسخة مكرّرة من حيوات نساء أخريات في العالم، عشنَ الشهرة الواسعة نفسها، ثم انتهين في عزلة مهينة. ها هي كاتبة محتضرة فوق سرير مستشفى: بقايا جمال آفل، ونظر شحيح، وحطام امرأة مدمنة على الكحول، وذكريات مشتتة عن مجدٍ طواه النسيان.