«البرامج الساخرة تنفّس ولا تحرّض»، تكاد تختصر عبارة الكاتب والناقد المسرحي عبيدو باشا مجمل البرامج على الشاشات اللبنانية. إنّها طفرة كميّة قفزت في الآونة الأخيرة. بات لكل محطة تقريباً أكثر من برنامج فكاهي أسبوعي. استحوذت lbci على حصّة الأسد منها مع «بس مات وطن» (الجمعة)، و«دمى قراطية» (يومياً ما عدا السبت والأحد)، و«كوميكاز» (الجمعة) و«كتير سلبي شو». ولـ Otv برنامجان هما «مش معقول» (الثلاثاء) الذي انتهى موسمه أخيراً، وChi w Menno (الأربعاء).
أما «الجديد»، فتعرض «إربت تنحل» (الأربعاء) و«شي. أن. أن» (الثلاثاء). ويبقى «ما في متلو» وحيداً على mtv. وأخيراً، استحدثت nbn «حلو كتير» وتبعتها «المنار» ببرنامجها الفكاهي «أول على آخر» (الجمعة 20:40). مضامين هذه البرامج تظهر ثوابت ولازمات تتكرر في كل منتج تلفزيوني مماثل، باستثناء برنامج قناة "المنار": شخصيات تختصر الطيف الطائفي والمناطقي (السني البيروتي، الجنوبي الشيعي، البقاعي الحشاش، الشمالي الحاد الطبع)، أو أخرى تمثل شخصية بائعة الهوى. تتدرج هذه الشخصيات ومعها «معايير» خاصة صنعتها هذه البرامج كالعنصرية ضد الأجنبي، وخصوصاً الفلسطيني والسوري، وتضاف إليها النكات والإسكتشات المبنية على الجنس بطريقة مبتذلة، ومعها تتغير الشخصيات وأسماؤها ويبقى المضمون المكرر عينه.
هل هذه كوميديا حقاً؟ إلامَ يعود كل هذا التهافت على تقديم أحد أرقى الفنون وأكثرها تطلباً للذكاء والمتابعة وحسّ الفكاهة؟ من يقف وراء هذا الأمر؟ والأهم كيف ينعكس ذلك على الجمهور المشاهد؟ الكاتب عبيدو باشا ينطلق في حديثه معنا من أبي الفنون، المسرح الذي تنطبق عليه إجمالاً معايير التلفزيون في ما خص المسرح الهزلي الساخر. يصوّب باشا حديثه على مسرح «الشانسونييه»، فيقول إنّ من يعمل في هذا النوع من المسرح هو نفسه الذين يُنتج البرامج الساخرة. يصف «الشانسونييه» بـ«الهافت» بسبب تشويه مفاهيمه من «منبر نقدي يحتاج إلى نص ممتاز وممثلين على درجة من الكفاءة»، إلى آخر لا يقيم مسافة نقدية بين السياسي والممثل. نرى مثلاً الممثل يلمّح إلى فساد السياسي وسلوكه المريب، فيضحك هذا الزعيم كأنّه غير معنيّ! غياب المساحة النقدية ومعها الوظيفة الجمالية مردّه - كما يقول باشا - إلى عدم وجود أي خلفية مفهومية عند معدّي هذه البرامج، فأغلبهم لم يدرس ولم يبحث أكاديمياً في المسرح.
وبالعودة إلى التلفزيون الذي كان منتجاً ومختبراً لأهم الأسماء في مجال الكوميديا، فقد تغيّرت معاييره وتغيرت معها علاقة الناس بالمنتج التلفزيوني: «لدينا أناس يعرفون التقليد والسخرية، لكنهم لا يفقهون الهجاء»، هكذا عبرّ باشا عن هذا التراجع في تقديم مضمون كوميدي ذي مستوى. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ أحوال الناس المعيشية وأزماتهم و«ضيق خلقهم» من الطبقة السياسية التي تنتج حضورها في كل مرة انعكست بوضوح على نوعية هذه البرامج، فأضحت متنفساً لهم للهروب من واقعهم المرير من دون التفكير حتى في المستوى الذي تقدمه هذه البرامج الساخرة.
لكن هناك الكثير من القضايا في لبنان، فكيف تصوّرها هذه البرامج وتشبعها تشويهاً وتسطيحاً؟ على سبيل المثال، قدم برنامج «إربت تنحل» إسكتشاً عن قضية تخص المستأجرين القدامى وقانون الإيجارات الجديد. صوّر الإسكتش هؤلاء المستأجرين على أنهم يملكون ثروات طائلة ولا يدفعون ايجاراتهم الزهيدة، وطبعاً عمّم المعدّ فكرته على جميع المستأجرين، وبالتالي هضم قضيتهم المحقة التي نزلوا إلى الشارع من أجلها. لنلق نظرة ونعود قليلاً إلى التمييز العنصري والعرقي بحق الجاليات السورية والفلسطينية والخليجية والجنسيات الأخرى التي تندرج تحت العمالة الأجنبية. لا تنتهي الأمثلة وما زالت تكرر نفسها بين الحين والآخر. الطامة الكبرى إذا دخلنا السياسة وأزلامها ومعها البرامج الساخرة التي تمرر نقداً سياسياً لاذعاً لا يكون في الغالب بهدف التقويم، بل بما يخدم التوجّه السياسي للمحطة.
أخيراً، يصل باشا إلى خلاصة أنّ اللبنانيين أصبحوا اليوم يخافون من بعضهم، وخسر لبنان تعدده وتنوّعه، وبالتالي انعكس ذلك على الشاشة. «البلد أصبح تكتلين يكره أحدهما الآخر». وعزز هذا الأمر غياب الطبقة الوسطى التي تم «تدميرها منهجياً»، ومعها غابت المكونات الاجتماعية التي تجمع اللبنانيين، فلا نراهم يتظاهرون لأجل لقمة عيشهم، بل يهرولون وراء زعمائهم الطائفيين. أما طبقة المثقفين، فتحوّلت إلى مجرد أبواق عند الزعماء وفق باشا الذي يضيف: «تحوّل العلمانيون إلى محرّضين وطائفيين». ويبقى الحلّ بحسب باشا في تكوين رأي عام جديد قادر على التأثير والتحرّك وسط هذا المشهد السوداوي على الشاشات أو على أرض الواقع.