منذ حزيران (يونيو) 2001، أدرج لبنان عيد الموسيقى على رزنامة مواعيده الثقافية الثابتة لينضم بذلك إلى نادي الدول التي تحتفل بهذه المناسبة، أولها فرنسا، صاحبة الفكرة في الأساس (عام 1982 بمبادرة من وزير الثقافة الفرنسي آنذك جاك لانغ).
لم يكن لبنان قادراً على موافاة فرنسا مطلع الثمانينيات، فصوت الموسيقى لا يعلو فوق صوت المعركة. ولا حتى بعد الحرب. العاصمة لم تكن مؤهّلة لاستقبال أي صوت سوى هدير جرّافات إعادة الإعمار. لكن لماذا انتظر عيد الموسيقى نهوض العاصمة كي ينطلق؟ إنها العاصمة؟ حسناً. وما الذي يفرق المدن الكبرى عن العاصمة في جميع الدول التي تتمتع بالحد الأدنى من الإنماء المتوازن؟ مدن لبنان كثيرة، بالتالي كان يمكن لنشاط ثقافي من هذا النوع أن ينطلق قبل عام 2001 وخارج العاصمة، وربما في أكثر من مدينة، في انتظار بيروت الجديدة التي كان بإمكانها الانضمام إلى العيد بدلاً من تأخيره ثم احتكاره. إذاً، لماذا سارت الأمور هكذا؟ في الواقع وحدها بيروت كانت بحاجة إلى بشرٍ يبثون الحياة في شوارعها الباردة بسبب سياسة الإعمار التي قصدت تحويل وسط العاصمة إلى مرتع لأغنياء البلد وزملائهم طبقياً، الخليجيين تحديداً. هؤلاء قلة والفقراء أكثرية... ونشاطات عيد الموسيقى مجانية عن قصد!
هذه مشكلة محلّية، تقابلها مشكلة جوهرية أهم بكثير، شرحها يطول لكن يمكن تلخيصها بالتالي: جاء عيد الموسيقى تماماً عندما بدأ زمن انحطاطها! عمر الموسيقى آلاف السنين. أو لنقل، ألف سنة كي لا نعود إلى نتاجٍ غير موثّق. أو لنسهِّل الأمور أكثر، نكتفي بالرجوع ثلاثة قرون، كي نحصر المسألة بالنتاج الموسيقى الذي ما زال يهم (بعض) الناس اليوم وليس فقط الأكاديميين أو المتاحف. منذ باخ حتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قدّم البشر أفضل ما لديهم في الموسيقى. فرنسا تحديداً لم «تخترع» هذا العيد أيام برليوز ورافيل ولا قبلهما، ولا أيام كانت الأغنية الفرنسية رمزاً للجودة عالمياً في القرن العشرين. جاء العيد في زمنٍ الانحطاط الذي يتغذى من مصيبتَين: لا من يبدع جديداً ولا من يسمع قديماً... والاستثناءات في الحالتَين كانت القاعدة قبل عيد الموسيقى! العلة لدى الفنان والمتلقي واحدة: لم يعد أحد يريد أن يتعب، وخصوصاً في مجال الفن (الموسيقى وغيرها)، ربما لأنه يسمح بهامش من الغموض، بالتالي النفاق. المواهب موجودة. لكن من دون تعب تبقى نائمة فينتج منها مشاريع على شكل إبداع... وتسمى، للمفارقة، بِدَعاً!
معظم المشاركين من لبنان مع حضور لأوروبا وسوريا والإمارات والكويت والمغرب
إلى متى ستدوم هذه الحالة؟ النقد ينهي، بواسطة الناس، الحالات الشاذة سريعاً. في غيابه، ينهيها المجتمع لكن ببطء شديد. لذا لن تدوم... إلا طويلاً. في انتظار الفرج، لا بد من الأمل ولا مفرّ من متابعة الأحداث علّها تخبئ مفاجآت. عيد الموسيقى في بيروت يستقطب اليوم عشرات الفرق المغمورة والدعوة إلى ملاقاتها لاكتشاف ما عندها واجبٌ ثابت علينا. عيد الموسيقى تنظمه «سوليدير» و«المعهد الفرنسي» (المركز الثقافي الفرنسي) ووزارة الثقافة اللبنانية. لهذا السبب، تتمركز نشاطاته في مربّع الوسط التجاري وتتوزّع على ساحة الشهداء والحمامات الرومانية وحديقة سمير قصير وأسواق بيروت و«الزيتونة» و«كنيسة مار لويس» و«كاتدرائية مار الياس» (ساحة النجمة). هكذا يجمع العيد أكثر من 50 فرقة لتقدّم وصلاتها الليلة بدءاً من السادسة مساءً. معظم المشاركين هم من لبنان، بطبيعة الحال، لكن بعض الدول العربية (سوريا والإمارات والكويت والمغرب) والأوروبية (فرنسا ورومانيا) ممثلة أيضاً. تعداد أسماء الفرق وأماكن عروضها والوقت المحدد لها في المشاركة يحتاج وحده إلى صفحة كاملة. لذا نكتفي بملاحظات عامة تخص البرنامج ونضيء على أبرز الأسماء (راجع أسفل الصفحة). في البداية، نشير إلى أنّ الغالبية الساحقة من الفرق تنتمي إلى جيل الشباب، معظمها مغمور وبعضها حديث الولادة. ثانياً، وربطاً بالملاحظة الأولى، يحتل الروك والبوب والراب وتوابعها المساحة الأكبر من الصوت العام الذي سيسيطر على أجواء السهرة. حضور الجاز (والبلوز والفانك والسول) خجول بطبيعة الحال. وكذلك الموسيقى الشرقية. أما الموسيقى الكلاسيكية فتمثيلها أقل من شكلي ومحصور بالكنائس! وإذا استثنينا بعض «الوقحين» المصرين على اللغة العربية (فرقة «مين» ومايا حبيقة وفرقة «خبز دولة» السورية...) تطغى الإنكليزية على أسماء الفرق وكذلك على كلمات أغانيها، الخاصة أو المستعادة من الريبرتوار المعروف. من جهة ثانية، تغيب الأغنية الشعبية التجارية عن هذه التظاهرة (وهذا جيّد طبعاً)، لكن التجارب التجارية حاضرة، وتأخذ أحياناً شكلاً مبطّناً بأغلفة فضفاضة، مثل فرقة «أماديوس» (أي «موزار»!) التي تضم أربع حسناوات من رومانيا يقدّمن الخلطة الموسيقية الخاصة بالأعراس على آلاتٍ كهربائية (بيضاء اللون) بأشكال عصرية تمثل النسخ التقليدية (آلتا كمان وتشيلو وكيبورد). أخيراً، يحتفل «المعهد الفرنسي» بعيد الموسيقى في جميع فروعه في لبنان، لكن ضمن نشاط خجول نسبةً إلى الاحتفالات في بيروت. وبدورها، تشهد العاصمة مواعيد موسيقية عدة للمناسبة، تحديداً في الخانات والنوادي التي تنتشر في الشوارع المحيطة بالوسط التجاري.

عيد الموسيقى: بدءاً من السابعة من مساء اليوم