غزة | ليست سذاجةً في المطلق. ويستحيل تصنيفها ضمن الخطاب المستهلك عن الحياد والوقوف على مسافة واحدة بين قطبي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ليست سوى تغطية مدروسة تستفزّ وجود الفلسطيني على أرضه وعدالة قضيته، وترجّح كفّة «صمود» المجتمع الإسرائيلي وسط غابةٍ من الفلسطينيين «المتوحّشين»! هكذا، انطلقت جاين فيرغسون، مراسلة قناة «الجزيرة» باللغة الإنكليزية، في تقريرها الذي عرض قبل أيام عن مشاعر الشارع الإسرائيلي، وتحديداً الصدمة التي انتابته إثر أسر ثلاثة جنود إسرائيليين قبل نحو عشرة أيام.
صدمة بالطبع لا تنبع من أحقيّة الشعب الفلسطيني في مواجهة عدوّه، بل تفجّرت من تصوير الفلسطينيين عديمين للإحساس يخطفون ثلاثة «مراهقين»، وقد يسلبون حيواتهم برصاصة قاتلة أو «غادرة» وفقاً للمحطة القطرية.
لا يهمّ بالطبع ما في جعبة الطرف الآخر من مآسٍ ألحقها المصدومون به على مدار 66 عاماً. كل ما يهمّ هو حالة الحزن الشديد التي تغمر الشارع الإسرائيلي في المرحلة الراهنة. افتتحت فيرغسون تقريرها بمشهدٍ لخيمةٍ أقامها أهالي قرية «نوف أيالون» للتضرّع ودعوة الربّ إلى إرجاع أحد أبناء القرية المخطوفين، نفتالي فرنكل.
لم تفوّت فيرغسون فرصة تذكير المشاهدين بأنّ الجنود الصهاينة الثلاثة هم مراهقون (نفتالي فرنكل وجلعاد شاعر وايال يفراح)، واستثارت مشاعر المشاهدين بنحو أعمق عبر تحديد أعمارهم التي لا تتعدى 19 عاماً. لم تتوقّف المراسلة عند هذا الحدّ، بل أفسحت في المجال لعمّة فرنكل بتفريغ مشاعرها على الشاشة والقول: «ما زلت مصدومة ويصعقني الأمر في كلّ لحظة. فرنكل ذهب إلى المدرسة ولم يعد.

عرضت مراسلة
القناة تقريراً عن
مشاعر الإسرائيليين
بعد أسر الجنود

حقاً، إنه أمر قاسٍ والعائلة بأكملها قد تحطّمت». لن يمرّ شريط معاناة أكثر من 5700 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال أمام فيرغسون ومحطتها، ولن تستحضر طبعاً مسلسل الموت الذي أصاب أربعة منهم العام الماضي جرّاء التعذيب الجسدي
والنفسي.
تعود المراسلة مجدداً إلى التعليق: «ليس فقط في هذه القرية الصغيرة ينتظر الناس بقلق سماع أيّ خبر عن المراهقين المفقودين، بل إنّ البلد بالكامل مشدود لهذا الخبر، حتى إن محطات التلفزة الإسرائيلية حضرت إلى هنا ومكثت أياماً عدّة لتغطية القصة».
يختفي مشهد التضامن مع أهالي القرية من الشاشة، ليظهر مشهد آخر من أحد الشوارع الذي يقطنه مستوطنون إسرائيليون. تبرز المحطة حجم التحدّيات التي يواجهها الإسرائيليون في تعزيز «صمودهم» في أرض ليست بأرضهم، فهم غير خائفين ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي. ولإضفاء الصدقيّة على هذا التحليل القاصر، تمنح الفرصة لإحدى المستوطنات للحديث عمّا إذا كانت حادثة الخطف انعكست سلباً على سير الحياة.
تقطع المستوطنة الشكّ باليقين، وتقول: «لا يوجد ما يستدعي القلق. هل كان علينا ألّا نركب الباصات بسبب عمليات التفجير التي كانت تحدث بداخلها؟! هذا أمر مشابه، أصبح الأمر أسلوب حياة».
تناست المراسلة كيف يقاوم الفلسطينيون الموت ويحبّون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً، وإن كان سلاح العدوّ من أمامهم والدبابات من خلفهم والطائرات من فوقهم. لربما، كان المشاهدون الفلسطينيون سيتقبّلون التقرير لو جالت المراسلة بين مدن الضفة ومخيماتها، ونقلت بصورة حيّة حملة الاعتقالات والدهم الواسعة لمنازل الفلسطينيين، عدا سياسة القتل الممنهج بحقهم، إذ قتلت أربعة منهم منذ بدء العمليّة.
أما مراسل المحطة من غزّة، تشارلز ستراتفورد، فاستهلّ تقريره عن عملية الخليل وعلاقتها بقطاع غزّة بمشهدٍ لفتيان غزيين يتدرّبون على حمل السلاح ومهمّات قتالية أخرى في أحد المخيمات التابعة لحركة «حماس».
ثم علّق ستراتفورد: «هؤلاء أبناء لأهالٍ يعتقدون كغالبية أهالي غزة أن «حماس» تمثل مستقبل فلسطين، وهي الحركة التي تشكّل جزءاً من حكومة الوحدة التي لا ترضي إسرائيل». سعى المراسل من وراء ذلك إلى إظهار المفارقة بين فتيان «إرهابيين» يشقّون درب «حماس»، وآخرين «أبرياء» باتوا بيد الجماعة التي تخرّج أفواجاً من أولئك الفتية «الإرهابيين»! المحطة القطرية التي انطلقت بالإنكليزية بهدف تغيير الصورة النمطيّة عن الشرق الأوسط وفق ادعائها، لم تعد اليوم سوى عبء إضافي على الفلسطينيين تسوّق لرواية الإسرائيليين في الغرب وتهمّش الرواية الأصدق!