كما أنّها تركت بصمة كبيرة من خلال جولاتها العالمية، حيث لحنت لكبار شعراء وأدباء العالم منشدةً من ألحانها: ابن عربي، رابعة العدوية، جلال الدّين الرّومي، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، جبران خليل جبران، غوته، طاغور، سارتوريوس، أدونيس، محمود درويش، طلال حيدر، سعيد عقل، أنسي الحاج، أحلام مستغانمي، الحلّاج، لوركا، المتنبي، أبو فراس الحمداني، غونتر غراس، نزار قبّاني، أمل الجبوري، هدى النعماني، لميعة عمارة وغيرهم. وفي ألبومها الجديد، تواصل هذه المسيرة، فتتولى تلحين مجموعة من القصائد لطلال حيدر، وأنسي الحاج، ومحمود درويش، وبابلو نيرودا، وأحمد رامي، وأدونيس، وولادة بنت المستكفي وفروغ فرخزاد.
«مُمَوسقة» الشعر الصوفي تبني معبراً في «شَهد»، ينقلنا بلطف وخفة من تقليدٍ عربي/ تركي/ فارسي إلى حداثة عصرية معولمة لم تجد هويتها بعد. حتى في لحن «النوم يداعب عيون حبيبي» (كلمات الشاعر أحمد رامي) وهو الوحيد الذي لا يحمل توقيع وهبه إنما لرياض السنباطي الذي غنته أم كلثوم عام 1938، نجد في هذا التوزيع الجديد جسوراً موسيقية تفصل المقاطع الغنائية. تمازح المستمع تارةً أو تدخله في ممرٍ للحضارات والعصور طوراً. يدخل المستمع في حداثة موسيقية ناضجة تبرز إلمام الموزع (ديك فان دير هارست) وتعمّقه في قوانين موسيقية، باشر بخرقها ليحجز مكاناً بارزاً مع رواد الموسيقى العصرية، علماً بأنّ ديك فان دير هارست أشرف مع الموزعين أسامة عبد الرسول وفيليب توريو على إنتاج العمل الذي تختصر الفنانة وصفه بعبارة «هدهدات وأراجيح للكبار».
يبرز «شهد» جمالاً لآلات معينة تطغى على الجو العام، أوّلها الأكورديون (فيليب توريو) الذي يلتف حول سلسلة الأغاني، ليضيف على جو الخشوع إيقاع التانغو ثم الفالس، فالبوسا نوفا. من جهةٍ أخرى، يسود انفصام بين الغناء والمرافقة الموسيقية كأنهما في بعض الأحيان خطان متوازيان، لولا أن الرق (فرنسوا تايلوفر) الذي نسمع منه تقلبات إيقاعية معقدة أحياناً كالسماعي، يعيدنا في وقتٍ آخر إلى قوالب موسيقية من عصر النهضة؛ أبرزها «القصيدة الموقعة على الوحدة» بحيث يتآلف الإيقاع الوزني الكلامي مع الإيقاع الدوري.
وفي قصيدة «لك عطر» للشاعر أدونيس الذي استمع إليها من جاهدة في باريس قبل عام، وأكد على استثنائية تجربتها الغنائية، نستطيع أن «نرى» موسيقى تصويرية أتقنتها المطربة بجودة قدراتها التمثيلية. نجد أنها كما قال شاعرها «تخوض غمار تلحين نصوص شاهقة ستبقى في بال التاريخ»، في قصيدة دنيوية تقترب بقوة العشق إلى القصائد الصوفية.
ينقلنا جوّ العمل
من تقليد عربي/ تركي/ فارسي إلى حداثة عصرية معولمة
وفي «يطير الحمام» للشاعر محمود درويش الذي تُختم بصوت إلقائه هذه القصيدة، يستهل التشيلو (لودة فيركامت)، بعرض الملخص اللحني theme للمقدمة، قبل أن يرافقه الأكورديون بسبكٍ هارموني يمهد للغناء الذي نشعر لاحقاً بأنه يكاد لا يتسع لغزارة الكلام السخي بالمعاني والعبارات.
أما في قصيدة «وصال» للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد، فننتقل موسيقياً إلى حالة صوفية إيرانية حيث يرمينا التار والبزق (إيلي معلوف) في جوٍ تأملي فارسي بامتياز، لولا الآهات الشرق عربية للمغنية، تليها تلاوة للقصيدة ثم غناء موقع، فإلقاء تصويري حاد لها، قبل أن ننتقل مع القانون (أسامة عبد الرسول موزع المقطوعة) إلى لفحة من التقليد التركي. مميزة هذه القطعة، ومثيرة حقاً. تتخلل العمل أيضاً مقطوعة شعرية لافتة، تلقي فيها الفنانة قصيدةً كتبتها كإهداء لـ«الأزرق» وهو شخصية من كتابها «الأزرق والهدهد/ عشق في الفايسبوك»، رمز الأفق والمدى، علماً بأن إلقاء قصيدة ليس بالأمر الجديد في أعمال الفنانة.
في الختام، يعيدنا كورال بوليفوني إلى عصر الباروك حتى أنّنا نشعر كأنّ القانون بات «لوت»، لتظهر بعدئذٍ بعض معالم الموسيقى اللبنانية مع مقام الصبا والعجم في قصيدة «يا ليل يا ليل» لأنسي الحاج.
ما يبعد «شهد» عن الموسيقى الصوفية هو غياب التكرار في الفقرات المؤداة، باستثناء التكرار التقليدي «الاسراري» للموسيقى الشرق عربية الذي يعتمد على تحريفٍ للحن في كل مرة. وهذا ما يجعله «أسهل» للمتلقي، وجديد الحياكة في الوقت عينه.
بعدما قدمت العمل في العديد من العواصم الغربية والعربية، اختارت وهبه متحف «اللوفر أبو ظبي»، لتحيي فيه أمسية غنائية، تطلق خلالها ألبومها «شهد» الذي يعدّ الثالث من ألحانها وإنتاجها. وتعود «شاعرة الصوت ومثقّفتُه» لتطلق رسمياً ألبومها الجديد مساء غدٍ على خشبة «مسرح المدينة» (الحمرا). إلى جانب اللقاء الصحافي والفني، تتضمّن السهرة فقرات فنية ستفاجئ الجمهور، يليها عرض فيلم يحكي عن مراحل تسجيل العمل وتنفيذه في بلجيكا، بحضور كل من الشاعرين طلال حيدر وندى أنسي الحاج.
«شَهد» لجاهدة وهبه: 19:30 مساء غدٍ ــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـــ للاستعلام: 01/753010