أخفق «ستوديو بعلبك» في النجاة. والحق أن فرص نجاته فُوِّتت عمداً لأسباب مدينية وربحية تافهة، سوّغتها سياسة إعادة الإعمار التي استسهلت طمر صالات السينما والمسارح والمباني الأثرية في بيروت. من المعلم الثقافي اللبناني الشهير، بقيت بعض المقتنيات والوثائق والآلات والصور، فيما توارت وجوه المشاهير التي مرّت به ذات يوم، من فيروز والأخوين الرحباني وصباح ومحمد عبد الوهاب وزكي ناصيف ويوسف شاهين وغيرهم. حين أقفل «ستوديو بعلبك» نهائياً عام 2010، أفلتت هذه المقتنيات من موت المبنى، لتقع في قبضة مزاد علني هائل قاده المستثمرون والتجار لبيع معداته وأرشيفه. لن تنفع استعادة سيناريو كهذا سوى باستثارة خيبة، جنحت ـ لفرط تجذّرها ـ نحو عبثية لبنانية جارفة. «هوليوود العربية» أغمضت عينيها على ذاكرة عريقة تمكّنت جمعية «أمم للتوثيق والأبحاث» من شراء جزء منها من الجهة «الوصية» عليها حينها. اليوم، بعد أربع سنوات، وصلت إلينا من خلال معرض «ستوديو بعلبك في الهنغار» الذي يحتضنه «هنغار/ أمم» (الغبيري _ ضاحية بيروت الجنوبية).
وثائق بصرية ومستندات ورقية ومقتنيات ومعدّات يتيمة تطالعك لدى دخولك المعرض. ولعلّها في صورتها الظاهرة، تتماهى مع تاريخ الاستوديو المقطّع الأوصال؛ بدءاً بتأسيسه في منتصف الخمسينيات من قبل رجلي الأعمال الفلسطينيين بديع بولس ويوسف بيدس، تلاه إفلاس بنك «إنترا» الذي كان يتبنّاه في الستينيات، وصولاً إلى الحرب الأهلية وتوقّفه عن العمل للمرة الأولى في الثمانينيات. أعيد افتتاحه عام 1992، قبل أن يتوقّف مجدداً في وقت لاحق في التسعينيات، كان هذا تحضيراً لإغلاقه كلياً عام 2010. يصبّ معرض «أمم» تزامناً مع «يوم الأرشيف العالمي» (7و8و9/6)، في الهمّ التوثيقي لتاريخ لبنان العنيف والحربي الذي يشكّل نقطة جوهرية في عمل الجمعية، منذ تأسيسها عام 2005. وبما أن الحرب الأهلية طاولت «ستوديو بعلبك» أيضاً، جاء معرض «ستوديو بعلبك في الهنغار» ليوثّق تاريخين مرتبطين. الزاوية الأولى خصصت لمقتنيات بسيطة، عبارة عن تفاصيل من الاستوديو كعلبة كاميرا وسماعات ومحفظة وإضاءة وبروجيكتورات. هذه المعدّات المعروضة بدت مجرّدة، كأنها تلهث خلف ذاكرتها المتبقية في ذلك المكان. تعيد هذه التفاصيل الصغيرة، نسج صورة متخيّلة عن الستوديو الشهير وما رافقه من فورة في الصناعة البصرية والموسيقية حينها. وإن بدت هذه المقتنيات ناقصة، إلا أنها تنبّه إلى جزء مفقود ومكمّل لها، يقبع ضمن مجموعات خاصة لدى مقتني الأعمال الفنية الذين استطاعوا أن يشتروها من المزاد أيضاً. هكذا، تشتت تراث «ستوديو بعلبك»، فيما يواجه كل معلم أو إرث ثقافي خطر التلاشي في المستقبل. من هنا يطرح المعرض سؤالاً حول الاحتفاظ بتلك الوثائق المهمّة، وأرشفتها في لبنان. وانطلاقاً من هذا السؤال الملحّ، دعا الناشر اللبناني لقمان سليم والمخرجة الألمانية مونيكا بورغمان في كتاب «عن ستوديو بعلبك ومنازل لبنانية أخرى»، إلى «إنشاء بنية غير ربحية تحت اسم «وقف ذاكرة لبنان»... على أن ينشد هذا الوقف، العمل على بنود عدّة». قد يكون الجهد الأرشيفي والتوثيقي الجدي الذي بذلته الجمعية منذ تسلّمها الآثار، أهمّ من المعرض نفسه. تمثّلت الخطوة الأولى في إنقاذ حوالى 400 بكرة أفلام، وبكرات صوتية (16 و35 ملم _ سلبية وإيجابية/ ملونة وأسود أبيض)، وحفظها في غرفة ذات درجة حرارة مناسبة. في الخطوة الثانية، استُعين بالخبير الألماني هارالد براندز الذي كشف عليها وعلى إمكان تحويلها إلى شرائط رقمية. كذلك أرشفة المستندات الورقية والاحتفاظ بها تحت درجة حرارة ملائمة. من هذا الإرث البصري، نشاهد في المعرض ثلاثة فيديوهات: يتضمّن الأول مشاهد للبنان من الأعلى، والثاني هو فيديو ترويجي لـ«وزارة البريد والاتصالات»، وشريط يظهر احتفالاً بعيد الاستقلال اللبناني يعود إلى الستينيات. إلى جانب هذا الشق البصري، نرى ملصقات أفلام من الاستوديو: «عقد اللولو» و«فاتنة الجماهير» و«بدوية في باريس» و«أبو سليم في المدينة» و«كلنا فدائيون»... تنتظر الزائر أيضاً وثائق ومستندات ومراسلات ورقية، تبين الأشخاص الذين توالوا على المكان، وشركات الإنتاج التي تعاقد معها وفواتير كهرباء وعقود بيع ونظامه التأسيسي، كلّها تظهّر شقاً مخفياً من كيفية عمله، بينما تستعيد هوية الزمانية والمكانية.
على قصاصة ورقة، كتب طوني منصف (13 سنة) رسالة إلى إدارة الاستوديو، يطلب منها المشاركة في التمثيل. الرسالة المرحة، بالخط البريء، ليست سوى دلالة على الأحلام التي كان يبعثها المكان لدى الناس في تلك المرحلة. سنقع أيضاً على وثائق مهمّة أخرى تعود إلى الستينيات والسبعينيات، من بينها مراسلات بين «الجبهة الشعبية لتحرير» فلسطين و«ستوديو بعلبك». في واحدة منها، يطلب بسام أبو شريف استعادة نيغاتيف الأفلام الخاصة بالجبهة «لدواع أمنية»، أو حتى رسالة للمخرج المصري يوسف شاهين يطمئن فيها الاستوديو بأنه يعمل في باريس على سيناريو فيلم عن رواية أندريه شديد. أوراق عادية تكتسب أهميتها من غياب المكان الأساسي، ومن مكانة الاستوديو لبنانياً وعربياً في الستينيات والسبعينيات. هكذا، يفرض التماس المباشر بين المتفرّج والمقتنيات الثمينة، جوّاً نوستالجياً، يرسم الملامح المتخيلة لـ«ستوديو بعلبك».




«ستوديو بعلبك في الهنغار»: حتى 15 تموز (يوليو) _ «هنغار/ أمم» (الغبيري _ ضاحية بيروت الجنوبية). للإستعلام: 70/875421