دمشق | كثُرَ الجدال حول ما يجري في كواليس الرقابة السورية، وازدادت التساؤلات بشأن آليات عملها إزاء منع أو إجازة، ما يعرض من مسلسلات سورية على قنوات التلفزيون السوري. حاولنا في «الأخبار»، استكشاف ما يدور في الكواليس، من خلال حوارٍ مع الإعلامي والمخرج عقبة الناعم الذي يعمل في لجان المشاهدة والتقييم، وقراءة النصوص في التلفزيون السوري منذ أربع سنوات. إلى أي حد باتت معايير الرقابة السورية أكثر تشدداً اليوم بعد ثلاث سنوات على الأزمة؟
يجيب: «قبل الأزمة، كان هناك سقف عال في النقد وتمرير أفكار جريئة، في قالب كوميدي، تحمل عمقاً في طرحها السياسي، ومنها مثلاً «بقعة ضوء»، والجزءان الأولان من «الولادة من الخاصرة» (تأليف سامر رضوان، وإخراج رشا شربتجي). وبينما كان يفترض رفع سقف الحريات والتعبير عن الرأي في سوريا بعد دخولنا الأزمة، إلا أنّ ذلك لم يتعدّ الخطابات ومجموعة قوانين صدرت مثل قانون الإعلام. أما على أرض الممارسة والتطبيق، فانخفض السقف كثيراً».
لكن منَ يحدد معايير الرقابة لديكم؟ يضحك قبل أن يجيب: «منذ أربع سنوات وأنا أعمل في دائرة الرقابة، وما زلت أبحث عن هذا الشخص، وأحاول الالتقاء به، ولا أجده. كلما جلست مع أحد من إدارة التلفزيون، اكتشف بأنه ليس صاحب قرار، وأواجه بابتسامة مفادها «اقلب الصفحة»».
لكن موسم العرض الرمضاني بات وشيكاً، فما هي الأعمال التي لا يمكن أن يعرضها التلفزيون السوري هذا العام؟ يجيب الناعم: «في ما يخص الرموز الوطنية ككل، يمنعُ بالتطاول على صورة الجيش مثلاً من حيث السخرية، أو تجييش العواطف، أو العلم السوري، كما لا يسمح بمضمون يثير الفتن في مجتمع فيه تنوع ثقافي وطائفي». وهنا يشرح آلية تصرف الرقابة إزاء وجود ما يمنع، قائلاً: «لا نضحي بالعمل ككل. نلجأ في هذه الحالة إلى المونتاج.

منع أعمال تتعلق بالأزمة، وفيتو على نجوم معارضين أولهم جمال سليمان ويارا صبري

أما إذا كان خطاً رئيسياً، وغير قابل لإعادة المونتاج، فهنا نكون مضطرين لرفض العمل ككل». لكن الموانع الأخرى في التلفزيون السوري لا تتعلق بموضوع الأعمال فقط؟ يوضح الناعم: «هناك أعمال نضطر لمنعها بسبب «اللائحة السوداء». هناك أشخاص ممنوعون من الظهور على الشاشة السورية، وبالتالي يمنع كل عمل يظهرون فيه. إذا كان دورهم ثانوياً، نقوم بإجراء مونتاج له. أما إذا كان دورهم رئيسياً، فيمنع العمل ككل»! وأشار إلى أن الأشخاص الممنوعين اليوم من الظهور على التلفزيون السوري، هم فنّانون وكتاب ذوي موقف من الأزمة السورية، وأصبحوا على خلاف شديد مع السلطة بعد تبنيهم مواقف وصفها بالـ«متطرفة» أعلنوها من الخارج، أمثال جمال سليمان وفارس الحلو ويارا صبري وكندة علوش وآخرين. «أما إذا كان هناك عمل كاتبه أو مخرجه على «اللائحة السوداء»، فنزيل اسمه عن الشارة، أو نعرض العمل من دونها».!
استناداً لهذا الكلام، قد يمنع التلفزيون السوري اليوم عرض مسلسل بقيمة «التغريبة الفلسطينية» لأنّ جمال سليمان أو يارا صبري على قائمة أبطاله؟! مثالٌ ساقه عقبة الناعم الذي لا يخفي اعتراضه على هذه الآليات في المنع. ورغم تأديته لعمله في الرقابة وفقاً لها، إلا أنّه يعتبرها «أكثر من كارثة»، وكشف أنّ الاعتراضات لدى المسؤولين حول ما يجري «لم تلق آذاناً صاغية».
هل أتى المنع بقوائم رسمية؟ يصف الناعم تلك القوائم لـ«الأخبار» بأنها «تعليمات واضحة من شخصٍ غامض»، ويضيف: «لا أحد لديه قوائم رسمية توثق ذلك، أو يصدرها على مسؤوليته، لكنها تعليمات يتم إملاؤها علينا عن طريق الهاتف، نكتبها كملاحظات على أوراق جانبية، وهذه القائمة يمكن أن تتسع، أو تضيق، وفقاً لمتغيرات الأحداث والمواقف». يذكر الناعم لنا حادثةً تدل على تلك المتغيرات المفاجئة في «البلاك ليست»، قائلاً: «قبل أيام من شهر رمضان الفائت، أتتنا توجيهات مفاجئة بأن تعرض جميع الأعمال على التلفزيون السوري، بغض النظر عن الأسماء الواردة في القائمة». ويوضح في معرض الإجابة عن تساؤلاتنا «نقطة في غاية الأهميّة»، إذ يقول: «بعد الأزمة، لم يعد تقرير رقابة المشاهدة بصلاحية دائمة، وإذا طلب لإعادة العرض بعد انتهاء صلاحية التقرير، يخضع للرقابة مرّة أخرى، إذ ربما يدخل أحد الممثلين على «البلاك ليست»». قد يكون هذا ما حدث مع «وطن حاف» (تأليف كميل نصراوي، وإخراج مهند قطيش وفردوس أتاسي، وإنتاج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي») عند إعادة عرضه على قناة «سوريا دراما» أخيراً. إذ حذفت منه عشر حلقات دفعةً واحدة، بعدما عُرِض منه 29 حلقة في رمضان الفائت، وحذفت حلقة واحدة بسبب «مضمونها العنيف». يشرح الناعم: «ربما ذهب العمل إلى إعادة الرقابة مجدداً، فوقع بين يدي رقيب أكثر تشدداً، وهذا يبين الفارق بدقّة بين رقيبين». هذا الأمر يشير إلى عدم وجود حدود واضحة لمقص الرقيب في التلفزيون السوري. يقول الناعم: «قد تختلف الرؤية بين لجنة مشاهدة إلى أخرى. مثلاً يمكن أن أرى عملاً، أو مشهداً لا يوجد فيه إشكالية، بينما يرى رقيب آخر أنه يحمل إسقاطات تسبّب منعه، ومتى بدأت تدخل في عملية الاسقاطات والتأويل، يُفتَح عليك بابٌ لا ينتهي».

شركات الإنتاج خائفة على مسلسلاتها



لم يتصاعد الدخان الأبيض بعد من أروقة التلفزيون السوري للإعلان عن قائمة المسلسلات السورية التي ستعرض على قنواته في شهر رمضان. إعلانٌ يتأخر بحكم العادة، لكنّه مشوب بالقلق هذا العام بالنسبة إلى معظم شركات الإنتاج، بسبب ما يحدث في كواليس الرقابة، فهل سيكون مقص الرقيب رقيقاً؟ توجهنا بهذا السؤال إلى اثنتين من شركات الإنتاج السوريّة، إحداهما تمثل القطاع العام الحكومي، والأخرى هي إحدى أبرز الشركات الخاصّة المنتجة للدراما في سوريا.
تنتج «المؤسسة العامة للإنتاج التلفزيوني والإذاعي» مسلسلين لموسم دراما 2014، هما «القربان» (من تأليف رامي كوسا، وعلاء الدين كوكش) وخماسيات «الحب كله» لعدد من الكتّاب والمخرجين، وكلاهما يندرجان في إطار الأعمال الاجتماعية المعاصرة. الأول يبحث في مسببات الأزمة السوريّة، والثاني يرصد انعكاساتها الاجتماعية والإنسانية. وقد أرسل المسلسلان أخيراً إلى رقابة المشاهدة في التلفزيون السوري، في انتظار تقريرها بإجازة العرض. لكن على أي نحو ستكون نتيجة هذا التقرير؟ تجيب المديرة العام للمؤسسة ديانا جبوّر: «إذا نظر الرقيب إلى مسلسل «القربان» بذهنية الشرطي، فلن يعرضه. أما إذا شاهده بذهنية المثقف صاحب الرؤيا التي تريد أن تفهم، وتتلافى أسباب ما حدث، سيوافق عليه. وهذا رهن بثقافة الرقيب ووطنيته، وهي ليست بالضرورة الوجه الآخر للولاء السياسي أو الحزبي أو الإيديولوجي. ربما سياسياً قد لا أقبل انتقاد جهاز إعلامي ما، لكن وطنياً أرى من مصلحة الوطن القيام بذلك.

مزاجية كبيرة
تتحكّم بقضية منع الأعمال أو السماح بها

وبالتالي نحن جميعاً أمام اختبارات، وكلنا نعيش شكلاً من أشكال الإرهاصات لمستقبل جديد، وليس لدي إجابات نهائية، بل اختبارات، سنخوضها مع بقية الفنانين، المشاركين في العملين».
«لا يخلو الأمر من مشكلات مع الرقابة» بالنسبة إلى القطّاع الخاص أيضاً. هذا ما أوضحه رامز تكريتي المسؤول الإعلامي في شركة «سما الفن» لـ«الأخبار» قائلاً: «على سبيل المثال، ننتج هذا العام عملين حسّاسين جداً هما «بقعة ضوء» (إخراج عامر فهد، عن نصوص لعدد من الكتاب) و«الحقائب/ ضبّوا الشناتي» (تأليف ممدوح حمادة، وإخراج الليث حجّو). لكننا لم نواجه مشكلات كبيرة بشأنهما مع رقابة النصوص. لكنّهم أبدوا ملاحظات تمكنّا من تجاوزها بإجراء تعديلات بسيطة. لكن إشكالية الرقابة الحقيقية، تكمن في عدم وجود معايير محددة. النص ذاته قد تعرضه على رقيب يرفضه، وآخر يوافق عليه. لا توجد موانع واضحة بمعنى لا تتحدثوا عن هذا الموضوع أو ذاك. ثمّة مزاجية نوعاً ما لدى الرقيب السوري، ومن الإشكاليات التي واجهناها العام الحالي عدم وجود عدد كاف من الرقباء لإعطاء رأيهم في النصوص بشكل سريع بسبب ظروف البلاد، وبالتالي كان تقرير الرقابة يتأخر جداً».
لكن ثمّة عقدة أخرى ستعانيها أعمال «سما الفن» وشركات أخرى، هي رقابة المشاهدة في حال قدّمت هذه الأعمال لعرضها على قنوات التلفزيون السوري، وهذا ما لا يمكن التكهن بنتائجه، حتى تضع تلك القنوات خطّتها النهائية للعرض في رمضان. وربما سيكشف موسم العرض الرمضاني ما هو أعظم.
محمد...