بينما كانت منشغلةً بجمع تفاصيل الوقت، والكتابة عن الفقد والعزلة، لم يخطر ببال صباح زوين – ربّما – أن تكون المفتقدة بعد موتها المبكر (راجع «الأخبار» 6/6/2014)، إثر صدور مجموعتها الأخيرة «عندما الذاكرة، وعندما عتبات الشمس» (نلسن) بعد أسابيع قليلة على رحيلها الصّامت. وكأنّما المصادفة تمنح الشاعرة الراحلة فرصة التماهي مع حروف قصيدتها. قصيدة لطالما شغلها الغياب والفقدان والخسارة، ولطالما تعلّقت حروفها بأطيافٍ تختال كظلال باهتة على الجدران وجذوع الأشجار وزجاج النوافذ.
في مجموعتها الجديدة لم تخرج زوين عمّا انتهجته في علاقتها مع اللغة منذ «بدءاً من، أو، ربما» (1987). تعود إلى صوغ الجملة المرتبكة نفسها عن قصد، تاركةً للمعنى مساحة من اللهو، ينفذ عبرها إلى القارئ فيصيب لديه المعاني.

وإن أتى عملها الأخير كقصيدة واحدة طويلة، فإنّ تشظّي المعنى كما تشظّي المشاعر الكثيفة التي احتواها، يتيح قراءة المقاطع بشكل مستقل، ليغدو كلّ منها قصيدة مكتملة العناصر بما يذكّر بالهايكو الياباني، وكأنّها بذلك تحاول المضيّ بتجربتها إلى أفق أكثر رحابةً: «لم تنته التجربة/ بعد/ ولمْ/ لأنّ تجربتي مخاض الأصداء/ أو في مخاض الألوان هي/ لا تزال». وإن كانت القصيدة قد صدرت بعد الرّحيل، فلا بدّ أن توقيت كتابتها تزامن مع فترة المرض الذي رافقها لبعض الوقت. هذا ما يفسّر حضور الحزن بكثافة في إيقاع النص «أو لأنّ الحزن/ دائماً على عتبة البيت/ كلّما البيت أيضاً».
وفيما تخاطب طوال القصيدة حبيباً غائباً أو راحلاً، فإنّها لا تعفي نفسها من مصير مشابه وكأنّها بذلك تسعى إلى التماهي مع مصير محبوب كما في «لن أنجو/ من حركة الوقت/ المنفشلة/ ولن أفلت/ من دائريّة/ الشّكل». الوقت يمضي، وكلّ شيء ينذر بالرّحيل رغم الحضور، وكأنّ الحياة لم تعد غير محطّة انتظار للرحيل «لم يبق منك/ سوى أصداء قليلة/ وأروقة معتمة/ إذ كانت يدانا هنا/ على هذه الطاولة/ كانت الأروقة تنذر برحيلنا». وإن كانت الذاكرة تتقد لحظة الفقد فإنّ الوقت يغدو بطيئاً وثقيلاً جاعلاً من الأشياء ملاذاً «لست سوى في عزلة الوقت/ وكأنّ دهراً مرّ على تلك الأبواب/ كأنّ وجهي التصق إلى الأبد/ بثنايا الخشب الأسود/ وبعتبة بيتك وحوافي الشبابيك».

حوّلت الغياب
إلى ثيمة أساسية
في قصيدتها
لعلّ مفردة «الغياب» من أكثر المفردات الشعريّة تداولاً، إلا أنّ صباح حوّلتها إلى ثيمة أساسيّة بنيت القصيدة عليها، وراحت تتكرّر كلازمة موسيقيّة، في محاولة منها للتنويع على معاني هذا الغياب كما نقرأ في «أي هي في يدي لأنّ وجهك الغائب/... بعد غياب ظلالك/...إنّه الغياب/... في غيابك أنا كنت/... وبالكاد في بريق الغياب/... إنك تغيب عن كلّ نوافذي/... أو هو بياض الغياب/... لعتمة الغياب/... عندما أنا في غيابك أكون/... أو نوم الغياب هو/... عندما جرح الغياب/... إنها جمود الغياب/... الغياب فائض عني/... كيف إطار النافذة في الغياب/» وصولاً إلى «سكون الغياب». كأّنها بذلك تصنع بانوراما لمفردة شغلتها طويلاً هي التي عرفت بعلاقتها بالأمكنة وبالحضور، لكنّ الأمكنة بعد ذلك تغدو مؤلمةً «لماذا على المكان أن يؤلمني/ وعلى الوقت أن يصبح وقتاً/ وأن، نوافذ في الذاكرة/ حُفرت/ وأيّام في جوف العينين». بصدور قصيدتها الأخيرة تكون تجربة الشاعرة الراحلة قد اكتملت، هي التي لم يمنحها الوقت وقتاً لتشهد ولادة آخر كتبها، فمضت بخطواتها الخفيفة تاركةً ظلالها ترتسم على حواف الأمكنة التي أحبتها، وآلمتها.