«لقد كنّا صغاراً على المصائب، في بلاد تحبل بالفتن والقلاقل والانقلابات والمؤامرات» بهذه العبارة يختزل هاشم شفيق (1950) تطلّعات جيل وجد نفسه في خضمّ تحوّلات خانقة، انتهت به إلى المنافي. انطفأت أحلام جيل السبعينيات العراقي، وتشتتت خطواته في مختلف أنحاء العالم، في أكبر هجرة تشهدها عاصمة عربية، تحت وطأة المطاردة والسجون والقبضة الفولاذية. في كتابه «بغداد السبعينات: الشعر والمقاهي والحانات» (دار المدى)، يستعيد الشاعر العراقي تلك الحقبة العاصفة، في لهاث نوستالجي آسر، محاولاً ترميم سيرة أمكنة وأشخاص ونصوص، في مدينة لطالما كانت مفتوحة على الأسطورة والشعر والعنف. غاب صاحب «أقمار منزلية» نحو 28 سنة عن بغداد، وها هو يجد أشلاء أمكنة وحطام ذكريات، وقائمة طويلة من الموتى، وكأن الكتابة عن بغداد السبعينيات محاولة لاسترجاع زمنٍ بهي، رغم أوجاعه التي لا تحتمل.
شعراء يتلمّسون خطواتهم الأولى، أتوا من الأطراف، قبل أن يقتحموا المركز بمقاهيه وحاناته وشوارعه، يتأبطون كتباً وأسماءً ونظريات، في سجالات صاخبة «كنّا شبه مجانين، عدميين، نعيش حياة بوهيمية، نريد من خلالها التهام العالم دفعة واحدة، عبر قراءات طويلة». نون الجماعة هنا تشير إلى بزوغ ورشة تتمازج فيها مختلف الأجناس الإبداعية، بقوة الكتاب أولاً، فقراءة رامبو حينذاك ستقود الشاعر الشاب إلى باريس هائماً تتناهبه الحيرة والقلق والعدمية، ثم سيعود إلى بغداد مرّة أخرى، لينخرط في «ماراثون القراءة» بصحبة زاهر الجيزاني وشاكر لعيبي وخليل الأسدي وآخرين، قبل أن تتناهبهم لوثة الرحيل. سيتجه شاعرنا إلى بيروت لرؤية البحر والكتابة عنه، على غرار ما كتبه الفرنسي سان جون بيرس (1887_1975) وآخرون، كتجربة معيشة، وليس كنتاج قراءة وحسب.
وسوف يرسم خريطة بغداد الإبداعية، تبعاً لجغرافية مقاهيها وحاناتها، إذ كان معظم أبناء جيل السبعينيات يرتادون مقهيي «البرلمان» و«المعقّدين»، يتبادلون الكتب والمجلات والقصائد الطازجة والأفكار اليسارية، متطلعين إلى الفكر التنويري المحمول على حسٍ نقدي خلّاق، وكان الشعر بالنسبة إليهم خلاصاً حقيقياً. ما إن يطوي النهار صخبه، حتى تتوزعهم الحانات في شارعي أبي نواس والسعدون.

شارع الرشيد في بغداد، إلى
الحمرا في بيروت، والصالحية في دمشق، وبورقيبة في تونس...

يحصي هاشم شفيق نحو 50 حانة، كانت قائمة حينذاك، مثل «شريف وحداد» و«جبهة النهر» و«سولاف» و«السقيفة» و«غاردينيا» و«سرجون»، لكنه في زيارته الأخيرة إلى بغداد (2012)، سيتفقد أطلال هذه الأمكنة التي لم تعد موجودة، مثلما سيلتهم انفجار سيارة مفخخة تراث مكتبات شارع المتنبي وسوق السراي، أحد أشهر شوارع بغداد للمكتبات، وسوف يطاول الخراب دور السينما، بعد أن أغلقت أبوابها، واحدة تلو الأخرى. يستعيد صاحب «تطريز بالكرز» أيضاً ذكرياته في المسرح، وصعوده الخشبة بأدوار ثانوية، قبل أن يغامر بالغناء في برامج الهواة، ويشغف بالأعمال التشكيلية وإذا بهذه الفنون مجتمعةً، تشكّل ذائقته وتوقظ حواسه في شحن قصيدته بعناصر جديدة لجهة الإيقاع واللون والتشكيل البصري، سابحاً مع أقرانه عكس التيار، في تأصيل نصّ مفارق ومغاير وجريء. يتوقف هنا عند ذلك الشغف الفريد بالشعر ونشوة نشر القصيدة الأولى، وارتطامه بقصائد الآخرين، هذه القصائد التي فتحت أفقاً رحباً أمامه لتطوير أدواته الشعرية، وتأسيس مشروعه الشعري المختلف. ليست المقاهي والحانات فقط، ما يشدّ الشاعر إلى فضاء السبعينيات، فهو يتذكّر الغرف التي شهدت مكابداته الشعرية والحسيّة، والقراءات الأولى، في رحلة تيه شاقة ومضنية وشفيفة في آونة واحدة. وسوف يخرج من خرائط بغداد وتضاريسها الثقافية إلى البصرة لزيارة منزل بدر شاكر السيّاب (1926_1964)، ويلتقط صورة تحت «شباك وفيقة»، مبدياً حالة من الأسى لإهمال بيت الشاعر المهجور، وتبدّد أغراضه وأرشيفه، من دون أن يهتمّ أحد بتراث هذا الشاعر الرائد، على عكس ما سيجده لاحقاً من رعاية لبيوت الشعراء في العالم التي تحوّلت إلى متاحف. بقدر البؤس الذي أحاط بمصير بيت السيّاب، سيُفتن ببيت لوركا في غرناطة الذي بات متحفاً يغص بالزوّار يومياً، للفرجة على مقتنيات الشاعر ومخطوطاته ومكتبه وغرفة نومه. في محطة أخرى، يربط هاشم شفيق بين الشعر والشارع، معتبراً أن شاعر اليوم، هو شاعر التفاصيل والأشياء والأرصفة، بعيداً من «البلاغة الوعرة والخطابة والمحسّنات البديعية». هكذا يتوغّل لاحقاً برسم إحداثيات الأرصفة التي وطأها في شوارع العالم بمقاهيها وحاناتها وساحاتها. من شارع الرشيد في بغداد، إلى شارع الحمرا في بيروت، وشارع الصالحية في دمشق، وشارع بورقيبة في تونس، وأرصفة باريس وبرلين وبودابست وبراغ ولندن، «نحن الغرباء جئنا نترسّم الخطى ونقتفي الأثر» يقول. ها هو شاعر مشّاء آخر، يتأبط حنينه مثل حقيبة، إلى زمن حميمي بعيد، مستعيداً كنوزه وكوابيسه ومراياه المتشظّية بين الأمكنة الأليفة والمنافي.