يعسكر فيلم «كابتن أميركا: جندي الشتاء» صالات السينما. ينجح كثيراً، ويجذب جمهوراً جديداً لبطل الكوميكس القديم، لكن السؤال الحقيقي: ماذا يختفي خلف الرداء الأزرق والأحمر المستقى من العلم الأميركي؟ يغوص البطل ذو الدرع حتى رأسه في وحول السياسة، فهل اكتفى؟ يحدثُ كثيراً أن يمر الرئيس الأميركي على التلفزيون ضمن المسلسلات الدرامية والكوميدية في الولايات المتحدة الأميركية. كما يحدث أن تمر الأحداث السياسية أيضاً، وقد ترتكز مسلسلاتٌ أو أفلامٌ على أحداثٍ معينة حتى. هذا هو دأب صناعة الميديا في العالم: أن تدخل السياسة في كل شيء، ذلك أنَّ السياسة ــ أيضاً ـــ تبيع. لا تشذ الكوميكس عن هذه القاعدة. لطالما حظيت بأهمية سياسية لأسباب عدّة أبرزها أنَّ الكوميكس (بجميع أنواعها مقروءةً أو مرئية) بشكلٍ أو بآخر تلامس أجيالاً متعددة، مختلفة في العادة عن الأفلام أو المسلسلات التي يأخذ جمهورها طابعاً كلاسيكياً أكثر.
وقبل الدخول في تفاصيل ارتباط السياسة بشكلٍ وثيقٍ بعالم الكوميكس (يستعمل التعبير بشكل دقيق Comics Universe أكثر من تعبير كوميكس وحده للإشارة إلى كل منتجات الكوميكس: مصور، مرئي، مسموع، ملبوس، مشروب، مأكول)، يجب الإشارة إلى أمرٍ دقيق: ارتبطت الكوميكس بشكلٍ أو بآخر بالهندسة الاجتماعية. صنّاع الكوميكس كانوا يؤثرون بشكلٍ كبير في رغبات وحاجات الأجيال المقبلة من الشباب في محيطهم. مثلاً جملة «إنه وقت التدمير» (Its Clobbering Time) التي تقولها شخصية «الشيء» (The Thing) من شركة «مارفل»، أضحت نوعاً من التعبير الشائع، حتى إن المصارع الشهير من WWE، سي أم بانك (CM PUNK) يستعملها كجملة افتتاحية أثناء دخوله، مشيراً أكثر من مرّة إلى أنّه يقولها لما لتأثيرها فيه كطفلٍ في صغره، فهي تمدّه بالقوة وبالفرح في آونة واحدة. هذا التأثير الكبير للكوميكس كان واضحاً أنه سيكون ذا مدى طويل، ثم إنه بشكلٍ أو بآخر «يبيع»، فالبطل الخارق يحتاج عدواً خارقاً، فمن هو أفضل من أعداء الأمّة كي يصبحوا أعداء للأبطال الخارقين؟ ومن هو أفضل من الأبطال الخارقين للدفاع عن الأمّة؟
وإذ كنا نتحدث في السياسة، فلا ريب في أن أول مثلٍ يخطر في بالنا هو «سوبرمان» من شركة «دي سي» و«كابتن أميركا» من شركة «مارفل». هاتان الشخصيتان نختارهما لسببين: أولهما شهرتهما الكبيرة ونجاحهما، ثانيهما مباشرتهما تجاه الفكرة السياسية، فكلاهما يرتديان ألوان العلم الأميركي (وإن تغيّرت بدلة «سوبرمان» بعض الشيء في الآونة الأخيرة، ولكنها حافظت على ألوان العلم الأزرق والأحمر)، وكلاهما يصرّح بكل وضوح أنهما موجدان ليدافعا عن الحرية على الطريقة الأميركية، فضلاً عن محاربتهما وبشكلٍ واضح لأعداء الأمة الأميركية بشكلٍ دائم!

فتى «سوبر» مثالي

تبدو شخصية سوبرمان تمثيلاً حقيقياً للمجتمع الأميركي المثالي: الفتى المثالي الآتي من قرية صغيرة تدعى «سمولفيل»، والداه يملكان مزرعة. ورغم أنّه فضائي من كوكبٍ آخر، إلا أنّه جاء رضيعاً فعاش وتربّى ضمن «قيم» و«أخلاق» المجتمع الأميركي المثالية في تلك القرية الوادعة. «سوبرمان» ــ وباسمه العائلي كلارك كنت ــ يمرّ في مراحل الشباب كافة التي يمر بها الفتى الأميركي «العادي»: يمارس كرة القدم الأميركية مع أقرانه، يحبّ فتاةً من جيرانه، لديه أصدقاءٌ محليون، وفوق كل هذا يشاهد ما يجري سياسياً حوله. هكذا هي الحياة الأميركية كما يحلم بها جميع القراء: عائلة محبّة، قرية هادئة، حبيبة جميلة (بطبيعة الأحوال جميع فتيات الكوميكس تقريباً يرسمن جميلات للغاية)، أصدقاء ومدرسة عادية. «سوبرمان» يغادر تلك «الجنة» للولوج إلى عالم الأعمال: يغادر إلى «متروبوليس»، المدينة التي تشبه نيويورك إلى حدٍ كبير، وهو نفس ما يحدث يومياً مع آلاف الشباب الأميركي. يذهب إلى المدينة «الكبيرة» للحاق بحلمه. هنا هو ليس البطل الخارق الجبّار، بل مجرّد فتى أميركي عادي يسعى وراء حلمه. سياسياً واجتماعياً، يغدو البطل أميركياً أكثر حتى من الأميركيين أنفسهم، يمر بتجارب حياتهم كلها، بالتالي يستحق تمثيلهم، حتى ولو كان «غريباً» عنهم بأصله الفضائي. هذا هو الحلم الأميركي بأقصى تجلياته، الغريب الذي يأتي إلى أميركا، فينضم إلى بوتقة انصهار (Melting Pot) تجعله جزءاً لا يتجزأ عن النسيج الأميركي. سوبرمان/ كلارك، يمرّ في مختلف التجارب التي يعيشها القروي في المدينة، من طبيعة الناس الممتعضة أغلب الوقت إلى اختلافهم بشكلٍ جذري عن سكان الريف الطيبين. هذا ما جعل مجلة «سوبرمان» (و مجلة «أكشن كوميكس» التي تنشر قصص «سوبرمان» هي الأخرى) أكثر المجلات التي يظهر بها الرؤوساء الأميركيون.

يصرّحان باستمرار بأنّهما
موجودان للدفاع عن «الحرية» والتصدي لأعداء الأمة


جميع فتيات الكوميكس تقريباً
يرسمن جميلات للغاية ليجسّدن حلم
كل شاب بسيط
ظهر الرئيس جون كينيدي بعد اغتياله مباشرةً في قصةٍ أرادها الرئيس ليندون جونسون (الذي خلف كينيدي في الحكم) كنوعٍ من «التذكار» (وهو يوضح أهمية الكوميكس واستيعاب البيت الأبيض ـ مثلاً ـ لقيمتها وأهميتها)، ثم رونالد ريغان، مروراً بالعديد من الرؤساء. لكن ريغان كان الأكثر بروزاً، لماذا؟ لأن الحرب الباردة كانت على أشدّها آنذاك، وكان الشارع الأميركي يغلي خوفاً من اعتداءٍ سوفياتي، فكان «سوبرمان»: فتى كل الأميركيين وبطلهم، ولا بد له من أن يتصدّى للشيوعيين الأعداء. «سوبرمان» سيفعل ذلك مثلاً في قصة سيكون ضيفاً فيها وهي «عودة الفارس المقنّع» (1986 للكاتب فرانك ميللر) وهي قصةٌ بطلها الرجل الوطواط، حيث يطلب الرئيس الأميركي ريغان من «سوبرمان» أن يتصدى لعدوانٍ نووي «سوفياتي» على جزيرة متنازعٍ عليها، فيتصدى الرجل الفولاذي للصواريخ، ثم يعود الرئيس الأميركي، ليطلب منه التخلص من الرجل الوطواط في مرحلةٍ لاحقة. «سوبرمان» نفسه يصل إلى مرحلة «الغليان» حين لا يستطيع مساعدة ثوارٍ «إيرانيين» مفترضين ضد النظام الحاكم لأنه «كمواطن» أميركي لا يحق له التدخل في الشؤون الداخلية لبلدٍ آخر. يتخلى سوبرمان بعد ذلك عن جنسيته في صدمةٍ كبيرةٍ للقراء، وتحت جملةٍ خلبية: «يظهر أن الحق والعدالة على الطريقة الأميركية لم يعودا مجديين هذه الأيام!».

الكابتن الأكثر وطنية

شخصية مؤلف ورسام شركة «مارفل» ستان لي الأثيرة «كابتن أميركا» هي واحدة من أكثر الشخصيات وطنيةً في عالم الكوميكس. هي لا تمثّل الانتماء إلى بلدها، أو تدّعيه كما «سوبرمان» (بحكم أنه كائنٌ فضائي وليس أرضياً حتى). الشخصية لفتى يتمنى أن يدخل الجيش الأميركي كي يحارب طغيان النازية آنذاك. يفشل الفتى ضعيف الجسد في الالتحاق بالجيش، ولكنه يوافق على تجربةٍ علمية من شأنها منحه فرصة لخدمة وطنه، وفق ما قيل له. يدخل التجربة التي تجعله الجندي الخارق الذي سيتمكن للمرة الأولى في التاريخ من تسديد لكمةٍ مباشرة للديكتاتور النازي أدولف هتلر، وهو ما لم يستطعه أي جندي غربي البتة على أرض الواقع. نجحت الشخصية في اجتذاب الجميع إليها، وبقي طوال سنين عرضها الأقرب إلى المجتمع والشارع الأميركي أكثر من سوبرمان حتى. الكابتن يهوى جميع الأمور التي يحبّها المواطن العادي.
هو شخصيةٌ سيأخذها منه بعد سنين المصارع جيري بوليا الذي سيصبح أشهر مصارعٍ في العالم لاحقاً تحت اسم هالك هوجان مكرراً ما يقوله الكابتن: «اشرب الحليب، خذ فيتاميناتك واتلُ صلاتك اليومية». هكذا تحقق الحلم الأميركي. هذا باختصار ما هو عليه «كابتن أميركا». بلباسه ذي ألوان العلم، بكلماته التي تبدو كما لو أنّها من كتابٍ مدرسي، وسلوكه الأقرب إلى سلوك المراهق الريفي البسيط، كانت الشخصية رسماً للحلم الأميركي البسيط. لكن البراءة التي طبعت الشخصية في مرحلةٍ ما، سرعان ما تغيّرت بتغيّر المزاج الشعبي نفسه، فمن لكم هتلر يوماً سيدفع رئيساً أميركياً ــ هذه المرة ــ للانتحار. في قصة مثيرة، يدفع الكابتن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الانتحار بعدما كشفت حقيقته بأنه عميلٌ مزدوج يريد تدمير أميركا («كابتن أميركا» ــ العدد 175 ــ تشرين الثاني/ نوفمبر 1974). وقد خرجت هذه القصة قبل فترة قصيرة من استقالة الرئيس الأميركي إثر فضيحة «ووترغيت» الشهيرة حين كان المجتمع الأميركي يغلي بأكمله عداءً لنيكسون؛ تصدت الكوميكس لما يحدث بنجاح، وقالت كلمة الشعب، وتلك كانت المرة الأولى التي تقوم شخصية من الكوميكس بفعلٍ كهذا. حققت القصة نجاحاً كبيراً، وخلدت الشخصية للمرة الثانية (الأولى بعد لكمها لهتلر بالتأكيد). لكن الأمر لم يمر بذات السهولة، إن انكسار الحلم بالنسبة إلى الملايين بشأن «ووترغيت» والخسارة في فيتنام، جعلا البطل «ممثل الشعب» ينزع رداءه الرمزي ويرتدي زياً آخر، فظهرت شخصية «نوماد» (أو الرحال) في رسالةٍ تقول بأنّ الحلم الأميركي لا يموت، لكنه يرتدي ثياباً أخرى، في محاولة كما يقول المؤرخ الأميركي روبرت مادلتون: «إذا ما فشل السياسيّون أو أظهروا «قذارةً» ما، على المجتمع أن يكمل «مدنياً»، وهذا ما حدث لكابتن أميركا وتحوله لنوماد». لكن في نيسان (أبريل) 1975، في العدد 185، تعود الرسالة للظهور بشكلٍ أوضح: يعود الكابتن ببذلته المعهودة وأحلامه نفسها، لكن من دون التأييد المطلق الذي كان يحمله للحكومة الأميركية.