اعتاد محمد ملص (1945) باكراً، على تسجيل يومياته في مفكرة خاصة، رابطاً بين مكابداته الشخصية وأحلامه السينمائية. أحلام غالباً ما يطيحها الآخرون بمعول الممنوعات ليجد نفسه في حفرة، وما أن يحاول ردمها حتى تنفتح أمامه حفرة أكثر عمقاً. ننتهي من قراءة «وحشة الأبيض والأسود: مفكرة سينمائي» (دار نينوى- دمشق)، وإذا بنا حيال مقبرة من المشاريع السينمائية المجهضة. السينمائي الشاب العائد للتو من دراسة السينما في موسكو (1968 ـــــ 1974) وجد نفسه شبه عاطل عن العمل في غرفة المخرجين في التلفزيون، وسط إعاقات إدارية لا تنتهي، نظراً إلى الريبة التي كان يختزنها الإداريون نحو هؤلاء «الموسكوفيين المارقين» وما يخطّطون له من أفكار «هدّامة؟» لا تتواءم مع توجهات التلفزيون كآلة دعائية للسلطة.
هكذا، كان عليه أن يقترح فكرة تلو أخرى، قبل أن تبتلعها الأدراج، أو مزاج الرقيب في منع الفيلم وإتلافه لاحقاً: «تبدو الفرص عائمة، وأشبه بـ «جزرة» معلّقة أمامنا تحرّضنا على الاندفاع، فنلهث للإمساك بها، لكنها تبتعد كلما مضينا وراءها». سوف تتناهبه الدروب في مطاردة أفكار أفلامه الأولى، من القنيطرة إلى دير الزور، من دون أن تدور العدسة فعلاً. وفي حال حالفه الحظ، ستتعطّل بكرة الفيلم عند منعطفٍ رقابيٍ ما. أفكار أفلام، وانتظارات مضنية من أجل الموافقة، ونقاشات حول أهمية الفيلم التسجيلي، طالما أن تحقيق الفيلم الروائي في التلفزيون مسألة عسيرة، فيما حدث انقلاب فكري في المؤسسة العامة للسينما بقصد الإجهاز على ما تحقّق من أفلام نوعية وسمت انطلاقتها الأولى، وبدت «الكدمات الزرقاء» واضحة في ظل «التصنيف المسبق الصنع، والاتهامات المعدّة سلفاً، مثل وليمة ساخنة لا ينقصها إلا رش البهارات المتمثلة في المزاودات الإيديولوجية». صراع عنيف بين المنبوذين، وأحصنة المرحلة الجديدة، وبحث صارخ عن هوية اللغة السينمائية المرجوة.
في دير الزور أراد تصوير أحوال الفلاحين
هذا ما كشفته أصداء ندوات «مهرجان دمشق لسينما الشباب» (1974). لقاء المصادفة مع عمر أميرلاي (1944 ـــــ 2011) سيستمر طويلاً بصداقة متينة، وإن تعرّضت لبعض الاهتزازات، في مرحلةٍ ما، إلا أن انخراطهما في إدارة «النادي السينمائي» في دمشق، عوّض بعض الخسائر في الجانب الآخر. «إذا لم يكن بمقدورنا أحياناً أن نصنع أفلامنا، فلنتكئ على أفلام الآخرين لنعبّر من خلالها عن السينما التي نريد» يقول. التحاق صاحب «القنيطرة 74» في الخدمة الإلزامية عطّل مشاريعه السينمائية، كأن خبر مقتل بازوليني في اليوم الأول للدورة، مدهوساً بسيارة، لحظة شؤم إضافية سيعيشها في عزلته القسرية في المعسكر. عزلة كان ينتصر عليها في الإجازات الخاطفة بمشاهدة الأفلام كنوع من «الحرب النفسيّة» المضادة لاختصاصه في الجيش. لم تكن الخيبة سينمائية فقط، ها هي وزارة الثقافة تعيد إليه مخطوط روايته الأولى «إعلانات عن مدينة تعيش قبل الحرب» التي بدأ كتابتها في موسكو وأتممها في دمشق مدموغة بخاتم «عدم الموافقة». لم تكن تبريرات حنا مينه مقنعة في رفض المخطوط الذي قال بأنه لم يتمكّن من إكمال قراءته. ورغم أن سعيد حورانية وصف الرواية بأنها «سيمفونية شوبرت الناقصة»، إلا أن «اتحاد الكتاب العرب» رفض نشرها أيضاً، لترى النور لاحقاً في «دار ابن رشد» في بيروت.
حصيلة اللقاءات اليومية مع عمر أميرلاي انتهت إلى التفكير بمشروع مشترك اقترحه الأخير ببصيرته المشعّة عن «القرامطة»، فانخرطا بحماس في كتابة التصوّرات الأولية للفكرة، ثم انضمّ إليهما صنع الله إبراهيم. يقول محمد ملص في هامش كتابه لاحقاً «اليوم بعيداً عن مطبخ ومختبرات الكتابة المشتركة التي جمعتنا نحن الثلاثة، أريد أن أقول إن سيناريو «القرامطة» يتناول تاريخياً تجربة القرامطة في بناء دولة حرّة، وأن الخلفاء الذين حكموا الدولة الإسلامية في العصر العباسي لجأوا إلى كل أشكال العسف والعنف لإسقاط هذه التجربة».
بالطبع لم ينُجز الفيلم على غرار مشاريع موءودة أخرى، كأن مفكرة هذا المخرج مرتهنة للخيبات المتلاحقة، في معارك لا تهدأ «أشعر أني في قفص يلتفُّ من حولي. وأني أحمل قفصي وأتجوّل في الشوارع، وأتشرّب صور الصمت والتوجس والحذر المغمّسة في التفاصيل». من مشروع مجهض إلى آخر، ستحط كاميراه في دير الزور بنيّة تصوير أحوال الفلاحين في الأراضي السبخة، فيما فهمت إدارة التلفزيون أن الفيلم عن فولكلور الفرات. حين شاهدته لجنة الرقابة، استشاط المسؤولون غضباً من «الخدعة» التي أوقعهم بها هذا المخرج المارق. وبناء على هذه الصورة السلبية وتقارير الزملاء، سيتوقّف برنامج «نادي السينما» في التلفزيون إثر حلقة عن سينما مارون بغدادي الذي أتى دمشق بصحبة جوزيف سماحة وحاورهما عمر أميرلاي، فمنعت الحلقة من العرض، ثم توقّف البرنامج نهائياً بأوامر من الإدارة بعد عرض فيلم عن الثورة الفرنسية (1789) لأريان منوشكين.
يشير محمد ملص إلى أن عمر أميرلاي كان يواجه الحنين بالرفض، معتبراً إياه مرضاً يجب مقاومته، فيما يراه من جهته، ضرورة بقصد تشريحه أو وصفه أو تفسيره. بين شغف الراحل أميرلاي بالتسجيلي، وحلم ملص بالروائي، ستفترق دروبهما قبل أن يجتمعا مرّة أخرى على مشاريع أكثر حيوية، وسوف يختزل الصورة بهذه العبارة الحاسمة: «إننا سينمائيو العين البصيرة والكاميرا المفقودة». يغلق صاحب «سلّم إلى دمشق» (2013) مفكرته عند عتبة العام 1980، لكن مفكرات أخرى ما زالت تنتظر في أدراجه، ربما سيفرج عنها يوماً.