حسام حنوف * متى تستوجب الكتابةُ التضحيةَ؟ من أجل ماذا يضحّي الكاتب وبم يضحي؟ ما القضية التي تجعل الكاتب يخوض فيها ويضحّي من أجلها بأمر دونه الغالي والنفيس. البحث في التضحية وموجباتها ليس محتاجاً لمزيد من الجدال كما هي الحال حين تكون الكتابة جبهة التضحية، لأن للكتابة ما ليس لغيرها من طرق قد تجنّب الكاتبَ المواجهةَ المباشرة، وبالتالي التضحية أو الدخول في نزال موت على طريقة الفرسان القدامى. لكن أليس سؤالنا عما يستحق التضحية يستحضر سؤالاً أهم عما يستحقّ العمالة أو التنازل أو النفاق؟ قد تفهم أن يراجع الكاتب أدواته ويبحث فيها عما يجنّبه الحرب. قد تفهم أن يدافع الكاتب عن بياض جبهته الورقية ويبتعد بها ما استطاع عمّا يحوّلها إلى ساحةٍ حمراءَ غبراءَ أو حدّ فاصل بين متصارعَين اثنين أو أكثر. لكن كيف تفهم أن يدافع الكاتب عن بياض ورقته لحدٍّ تفقد فيه حتى البياض؟ كيف يقبل الكاتب أن تستلّ الضرورةُ بياضَ ورقته، وأي ضرورة لتعود ورقةً بلا أي لون؟ ورقة شفافة هشة أشبه بجناح بعوضة. ما الذي يجعل الكاتب يقبل أن يكتب نصّه على ورقة شفافة هشة أشبه بجناح بعوضة؟

تقرأ المعري وتاريخ حياته. ورغم قلة التفاصيل سيبدو جلياً تنقّل المعري بين متناقضات عدة، بين الإيمان والإلحاد. تقديس العقل وتقديس النص. الاعتكاف على السؤال الناقد الجريء من جهة وإقامة الليل بالذكر والصلوات من جهة أخرى. التمرد والالتزام. الرحمة بالحيوان والقسوة على الإنسان. وحتى إن كان المعري بريئاً من هذا التناقض، لكنّ الدارسين اليوم لم يبرئوه البتة. وانقسم الناس بين مؤكّد إلحاده وتمرّده ومدافع عنه وآخر مؤكد إيمانه والتزامه ومدافع عنه وثالث وسطيّ على طريقة كل أحزاب العالم، وإن كان المفكر العراقي هادي العلوي قد حسم الأمر بتوصيفه الساحر أنّ المعري لم يكن مؤمناً عبداً بل كان مؤمناً نظيراً انسجاماً مع كونه مثقفاً كونياً كما أسماه الماركسي هادي.
بعض الهادئين في تناول هذا التناقض عند المعري يردونه إلى ضعفه المزدوج كرجل وحيد ضرير، علاوة على أنه فرد كباقي أفراد المجتمع يعيش تحت سلطة سياسية عسكرية دينية مستبدة. وضعف المعري هذا جعله يلجأ لبعض الكتابات أو حتى الأفعال من باب التمويه على عين الرقيب المتربص به. ورقيب المعري سياسي وديني وثقافي واجتماعي في آونة واحدة. فما كان من المعري إلا التنازل في بعض كتاباته عن هجومه الشرس ورفضه الكامل، لمصلحة المهادنة والمسايرة ولكن على مستوى روحي أو ثقافي معين، ولم يبلغ حدَّ النفاق أو التصالح مع الجهل الاجتماعي أو الظلم السياسي ولا تُحدّثِ البتة في العمالة للأجنبي.


قبل ابن خلدون أن يرسم لتيمورلنك خرائط شمال إفريقيا والمغرب العربي التي نوى المغوليّ اجتياحَها

ويحدثنا التاريخ عن رجل عظيم القدر والفكر والأثر وهو ابن خلدون. وقد تناوله المسرحيُّ الفذّ سعدالله ونّوس في مسرحيته العظيمة «منمنمات تاريخية». الجانب الذي تناوله ونّوس هو ما يعنينا في هذا المقام. لقد هادن ابن خلدون وطبّع وتعامل وتعاون ومدّ يدَه للسلطان. ليس للسلطان المحليّ. ليس للحاكم المستبدّ فحسب، بل للسلطان الغازي المعتدي. للسلطان الذي كان أحد أفظع من عرفهم البشر دمويةً وهمجيةً وشراسة. إنه تيمورلنك. ولم يمد ابن خلدون يده لهذا السلطان وهو في قصره وبلده. لم يكن السلطان في إمبراطوريته حين قبّل ابنُ خلدون يدَه، بل كان على أبواب الشام يستعد لاجتياحها بعد اجتياحه بغداد وحلب حيث قتلَ واغتصب وأحرق ودمّر كما لم يفعل وحش ولا إنسان ولا بركان ولا زلزال. وقبل أن يرسم ابن خلدون لتيمورلنك خرائط شمال أفريقيا ودول المغرب العربي التي ينوي المغوليّ اجتياحَها بعد الشام، تذرّع المفكر الجليل بأنه إن لم يرسم الخرائط لتيمور فإن العشرات أو المئات سيفعلون. لم يوفّر ابنُ خلدون المؤرخُ والباحثُ الاجتماعي العظيمُ فرصةَ اللقاء برجل كتيمور غيّرَ التاريخَ وبدّلَ خريطةَ العالم في ذلك الحين. وقد مدح مفكرُنا العظيم عدوَّنا الفظيع، وعبّر له عن شوقه طيلة عشرات السنين للقائه، وساق له أقوال المتنبئين والعرافين علاوة على تحليلاته في علم التاريخ وعلم الاجتماع ليخلص إلى نتيجة حاسمة أنّ تيمور سيسود العالم بقرنيه والكوكب بقطبيه. ولم يكن ابن خلدون وحده في ذلك، لكن نترك قصص التجار ورجال الدين وأوهام الصلح والهدنة والاستسلام للغزاة، لمقام آخر.
في كل هذا وذاك، فإنّ ابن خلدون لم يكن يرى نفسه عميلاً للعدو بل خادماً للعلم والتأريخ. لم يقبّل يد عدوّه الغازي كمواطن يخون وطنَه بل كرجل تاريخ وبحث وتقصٍّ يخدم علمَه وبحثَه. لم يكن يعتبر فعلته من باب الخيانة والعمالة بل من باب «السبق الصحافي بلا صغرة».
لا يفوتنا هنا أن ننوّه إلى أنّ أعظم آثار الكتّاب والباحثين والدارسين قد ضاعت وأُحرقت في حملة المغول الذين قبّل ابن خلدون الأرضَ بين أقدامهم خدمةً للكتابة والبحث. طيلة عشرات السنين من العزلة، خرج المعري من بيته مرة واحدة. قابل الحاكم مرة واحدة. والحادثان كانا حادثاً واحداً. عندما قام القائد العسكري صالح بن مرداس بمحاصرة معرّة النعمان واعتقال شبابها، جاء أهل المعرة إلى المعري على طريقة المصالحات والتسويات اليوم، مع الأخذ في الحسبان أن وجهاءنا اليوم هم غالباً من المشائخ والتجار ولم أسمع عن «معري» واحد قام بوساطة في الحروب العربية الدائرة. توسل أهل المعرة المعري ليخرج ويتوسط عند ابن مرداس كي يطلق الشباب ويفك الحصار عن المعرة. أهل المعرة هم الذين كانوا أول من هاجم المعري حتى رماه مشائخها وشعراؤها بالكلب الأعمى الذي «عوى بمعرة النعمانِ لما خلا عن ربقة الإيمانِ». ورغم ذلك مد المعري يده للقائد المستبد خدمة للمجتمع الجائر. نجح المعري حيث لم يردّ القائد طلبه ككل القادة الذين يحاربون الكاتب المعارض لهم حتى إذا ما لاح تغير طفيف في موقفه تجاههم، عدّوه فتحاً مبيناً لهم. وشيوخ المعرة وشعراؤها الذين هاجموا المعري وسبّوه وهم الذين لعن المعري جهلهم ومدحهم للسلطان (وما شعراؤكم إلا ذئاب تلصّصُ بالمدائح والسباب)، هؤلاء، مداحو السلطان لا قيمة لهم عند السلطان نفسه. لكن حين جاءه خصمه المعري، أجاب طلبه وترك له المدينة وشبابها وغادر مسجلاً نصره التاريخي بأن المعري خرج إليه.
في كتاب «المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة»، يستعرض مؤلفُه المشاعيُّ المشرقيُّ هادي العلوي أسماء عدة لشعراء وكتّاب منهم من تنازل للسلطان المحلي ومنهم من خان وتواطأ مع السلطان الأجنبي والمعتدي فهو يذكر «عملاقي الشعر العمودي الحديث» أحمد شوقي ومحمد مهدي الجواهري حيث «تكسفك دواوين العملاقين بقصائد المدح»، لكن لا ينسى أن القطبين الكبيرين يرفضان التنازل للاستعمار وأن «الوطنية في شعرهما مبدأ ثابت لا يتزعزع» وليس كما هي الحال عند حافظ ابراهيم الذي كتب «قصائد في مدح الموظفين الإنجليز في مصر» أو مثل جميل صدقي الزهاوي الذي كتب الشعر «في مدح الحاكم العسكري البريطاني للعراق بيرسي كوكس وتحريضه على الثوار الوطنيين قائلاً له: عُدْ للعراق وأَصلحْ منه ما فسدَ». ويصبح الأمر أدهى مع معروف الرصافي الذي كتب القصائد «في هجاء ثوار العشرين والدفاع عن عملاء بريطانيا في العراق، وفي مدح المبعوثين الصهاينة إلى العراق، ذلك الأمر الشائن الذي جعل شعراء فلسطين يهاجمون الرصافي بعنف ويتبرؤون منه» كما يمر هادي العلوي على ذكر شاعر سورية الكبير بدوي الجبل الذي كان صديق فرنسا المستعمرة لبلاده، بينما «تطرّز ديوان الأخطل الصغير بشارة الخوري قصيدته العامرة في مدح أمير نفطي وهو ديوان مكرس للحب». ويبقى الأخطل «أنظف» من الشاعر العالمي طاغور الذي وصفه جورج لوكاتش بالعميل الفكري للبرجوازية الإنكليزية في صراعها ضد حركة التحرر الهندية. تسمع وتقرأ هذا وغيره. قد تقبل أن يهادن الكاتب لينجو من موت مجاني أو ينجّي غيره كالمعري. لكن كيف تقبل، ومَن يقبل، مِن كاتب أن يقبّل يدَ عدوّه الغازي المعتدي المجرم ويطأطئ عند قدميه مقبّلاً الأرض بينهما، وحجته أنه يخدم المنطق العلمي والاعتبارات الفنّية والبحثيّة؟ لو كان التاريخ نفسه يقبل بذلك لما كنا بعد مئات السنين نسرد هذه القصص عن كتّاب لم تمحُ أعمالُهم العظيمةُ عمالتَهم العظيمةَ ولم تُنسنا القرون اقترانَهم بالنفاق.
أيها الكتّاب لا تدخلوا من أجلنا في نزال موت مع أحد، ولكن لا تقبلوا موت التنازل لأحد، وبخاصة للعدوّ... وإن كنا نصمت حين لا تجدون مِن قضايانا ما يستحقّ التضحية، فلن نصمت حين تجدون ما يستحقّ الخيانة
* كاتب سوري