كان السِّجال الوجيز والموضِعي بين العلَّامة هادي العلوي والبروفيسور صادق جلال العظم (واختيارنا للصفتين، هنا، ذو دلالة، لما بينهما من اختلاف وتقاطع في التحليل والمشارب الثقافية) صورةً مصغَّرة للسجال العالمي والأكبر حول رواية رشدي «آيات شيطانية» (1988). سجال شهد معسكرين، الأول معارض — حدَّ التكفير — مُسْتَصْغِرٍ لقيمتها الفكرية وخلفيتها التاريخية؛ في مقابل معسكر متحمّس مؤيد لفنتازياتها الجانحة، إلى درجة تثمينِ استعمال الرموز الدينية كشخصيات روائية خيالية. وما يزيد هذا السجال أهميةً، أنّ الكاتبين يتشاركان الانتماء الأيديولوجي للماركسية وأحزابها الشيوعية العربية، عبر إدارة إحدى أهمّ مجلاتها الرائدة «النهج»، التي كانت تصدر عن «مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية» في العالم العربي.في كتابيه «ذهنية التحريم» و«ما بعد ذهنية التحريم» (نقصد هنا، للدقة والتحديد، ما كتبه العظم بقلمه، لا ما جمعه من وثائق ومقالات ودراسات في ملاحق الكتابين)، يركز صادق جلال العظم على إخضاع متن الرواية لمحكّ المرويات والتَّأريخات العربية ــ الإسلامية وتفاسير القرآن، مع المرور سريعاً على أدبيَّة النص وطاقاته التخييلية. من جهته، اختزل هادي العلوي كل جهد سلمان رشدي ــــ ربّما بحساسية مفرطة من كل ما يُنْتَجُ وسط الغرب، وبالتأكيد بعداء مبدئي لكل ما هو كولونيالي ـــــ إلى إعادة صياغة وثائق تاريخية بخلفية فكرية مُغْرِضَة، كأن كلّ همّ سلمان رشدي كان كتابة تنويع آخر على قصة/ مروية الغرانيق وزيجات النبي محمد، في ابتسار نقدي يكاد يشبه اختزال رواد النقد الاشتراكي-الواقعي للأعمال الإبداعية في مضامين ومحمولات فكرية ورسائل أيديولوجية أو وظيفة اجتماعية.
وللإشارة، فهذا الصراع الثنائي النقدي بين إطلاق العنان للتخييل والتمسك بحرفية الأحداث التاريخية قديم وعريق جداً في ميدان النظرية الأدبية. ذلك أنّ أرسطو، في كتابه التأسيسي «الشِّعرية»، ذهب إلى أن الشِّعر أعمق وأهم من التاريخ. وينبغي هنا، وفقاً للشعريات اليونانية القديمة، الأخذ بالشعر بمعناه الأشمل كعمل أدبي متخيَّل، لا بمعناه الحصري كجنس أدبي يستند إلى البيت والوزن. يقول أرسطو: «من البديهي أنَّ هم الشاعر، ليس الحديثَ عمَّا وقع، وإنما عمَّا يمكن أن يحدث، عن حقل المُمْكنات، وفق الاحتمال والضرورة [..] فالشعر أمرٌ أكثرُ فلسفيَّةً ورِفعةً من التاريخ. الشعر يتحدث عن عموميات، والتاريخ عن تفاصيلَ خاصَّة».
كأن سلمان رشدي يستند إلى أرسطو، كتبَ في ما بعد دفاعاً عن نفسه، قائلاً: «وفي وسط العاصفة تقف رواية، عمل تخييلي، يطمح لتحقيق شرط الأدب. وكثيراً ما بدا لي أنّ الناس، على أطراف النزاع كلها، قد غابت عنهم هذه الحقيقة البسيطة. فلقد وُصفت «آيات شيطانية»، وعوملت، على أنها نوع من التاريخ الرديء، وأنها معادية للدين، ونتاج مؤامرة يهودية-رأسمالية عالمية، وعمل إجرامي (لقد قتل قلوبنا)، وأنها فعل شخص يمكن أن يقارن بهتلر وأتيلا. فشعرت بأنه من المستحيل، وسط صخب مماثل، أن أصر على تخييلية العمل التخييلي» (سلمان رشدي ـــ «بحسن نيّة» ــــ ترجمة ممدوح عدوان).