معرض استعاديّ لأربعة فنّانين تشكيليين راحلين اختُتم أخيراً في «غاليري أجيال» (الحمرا ـ بيروت)، ضمّ خمسة وعشرين عملاً بين لوحات زيتيّة وكولّاج ورسم بالحبر وغراڤور، اختيرت من مجموعات خاصة لكلّ من جوليانا سيرافيم (1934 -2005) وفادي برّاج (1940-1988) وجورج دوش (1940-2018 ) وسيسي سرسق (1923-2015 ) التي أنجزت ثلاثة بورتريهات بالفحم والألوان الزيتيّة للفنانين الثلاثة ساروفيم وبرّاج ودوش. هذا المعرض الصيفيّ (أي خارج الموسم التقليديّ للمعارض) أضاء على نماذج من أعمال روّاد ثلاثة، ليحيي ذاكرة ماضٍ جميل، كاشفاً النقاب للمرة الأولى عندنا عن لوحات الفنان المصريّ الأصل جورج دوش، فضلاً عن ملصقات معارضه التي كانت تقام في أشهر الغاليريات الباريسيّة.
جورج دوش ــــ من دون عنوان (ألوان مائية على بطاقة ــ 34 × 51 سنتم ـــ 1971)

البداية مع أعمال جوليانا سيرافيم الأنيقة، البسيطة والجذّابة. فنّها سهل الإغواء، كأنّها لا تريد سوى ذلك، بيد طريّة، مطواعة، أنثويّة بامتياز، فلو رسمت المرأة فكأنّها تعرّيها في مناخات شرقيّة حيث البُعد السحريّ مفتوح على عوالم «ألف ليلة وليلة». احتفاليّة بصريّة شرقيّة متناغمة مع ساروفيم نفسها، المرأة الجميلة، التي تضع نساء لوحاتها في مهرجان من الإغواء الشرقيّ الرومانسيّ، مضيفة عليه طابعاً سوريالياً تغذّيه مخيّلة خصبة وألوان زاهية. فانتازيا من الأسطورة والحكاية. بيد أنّ ساروفيم لا تكتفي بهذا الشكل التعبيريّ، بل تختبر أشكالاً أخرى مثل فنّ «الغراڤور» الذي أنجزت به أعمالاً كثيرة، فضلاً عن تجاربها في الخطّ العربي حيث تعالج الحرف بديناميّة مميّزة تقرّبه من البناء الزخرفيّ، وكانت لها معارض خاصة بهذا الأسلوب في جونيه (حيث عاشت) وباريس وكانّ.
الجدير ذكره أنّ جوليانا الفلسطينيّة الأصل (مواليد يافا) وفدت مع عائلتها ‏إلى بيروت عام 1948 وكانت في سنّ الرابعة عشرة، وسرعان ما التحقت بمحترف الفنان اللبناني الرائد جان خليفة، ثم سافرت إلى إيطاليا وفرنسا حيث نهلت المزيد من قواعد الفن التشكيليّ ولفتت الأنظار بسحر الشرق وغموضه وجماله، إن في شخصها أو في لوحاتها التي مالت إلى الغرائبية (fantastique) الشرقيّة، وأحياناً إلى السوريالية الأوروبية، وأطلقت مواضيع جديدة مثل المرأة- الزهرة، والمرأة -الفراشة، فوُصفت منذ ذلك الحين بالفنانة النسويّة بامتياز.
إلى فادي برّاج وأسلوبه التجريديّ ورموزه الخَفيّة، علماً بأنّه لا يقلّ غرائبيّة عن كلّ من سيرافيم ودوش. فالفنانون الثلاثة تجمعهم بقايا ذكريات الماضي بحيث يهرب كلّ منهم إلى عوالم باطنيّة تتّسم بسرعة التقاط المنظر الهارب (من الذاكرة) لتثبّته يد رشيقة خطوطاً لولبيّة ودوائر وبقعاً لونيّة، كأنّنا في إعصار تلك الذاكرة الهاربة من النسيان. يرسم برّاج (بموادّ مختلفة) كسائر الفنانين الذين عشقوا بيروت الزمن الجميل، لقطات سريعة من حياة المدينة اليوميّة، ناسها، أسواقها، مقاهيها البحريّة، وحتّى المشرّدين على أرصفتها. آثر برّاج الغياب التامّ عن معارض بيروت عندما تحوّلت «مدينته» هو إلى ما يشبه سجناً يشعره بالاختناق، فعاش آلام الهجرة والمنفى والضياع والمرض… فالموت. وقد صوّر بيروت في أعماله الأخيرة مدينةً متألّمة، مفجوعة، محاصرة بالغياب.
جوليانا سيرافيم رسمت المرأة في مناخات شرقيّة مفتوحة على «ألف ليلة وليلة»


جورج دوش، المصريّ الجنسيّة الذي تعود جذوره إلى آخر سلالات العائلة الملكية، درس الفنّ في «أكاديميّة جوليان» وفي «مدرسة الفنون الجميلة» في باريس. عمل في ميدان تصميم السينوغرافيا للأعمال المسرحيّة (تحديداً الأزياء والديكورات) كما في تصميم المجوهرات. عُرف بثقافته العالية وسعة اطّلاعه وموهبته الخاصة. عاش مدّة طويلة في بيروت، فاختلط بأجواء مثقّفيها، وفنّانيها، وأصبح فناناً معروفاً من خلال معارضه التي أقامها في السبعينيّات في غاليريات باريسية مثل «روديون» و«جاك هنري بيرّان» و«لوبوان»، في الفترة عينها التي حظيت فيها جوليانا سيرافيم بشهرتها في الرسم و«الغرافور». أعمال دوش في المعرض تعكس أسلوبه المفتتن بالطبيعة بغرائبية، تتميّز فيها طريقة رسم الوجوه التي تبدو كأنّها تجسّد هيئات ملوك قدامى من أزمنة الأساطير، فضلاً عن الغابات الغريبة والاستوائية التي يكثر فيها النبات العالي والكائنات الهجينة. ونُدهش عند النظر إلى لوحته بعذوبة الألوان وبالفرشاة المتأنّية والغرائبيّة التي يولّدها مزيج الألوان الزيتيّة والكولّاج.
مؤثّرة كانت جولتنا في هذا المعرض الاستعاديّ الجميل لفنّانين يُعتبرون من روّاد الحركة التشكيليّة اللبنانية والعربيّة، أثروا الحقبة المزدهرة بإبداعاتهم لسنين مديدة، قبل أن تبعدهم الحرب مرغمين عن بيروت، الحضن الدافئ والنشاط الدائم والملتقى الأول للوافدين من مختلف الجنسيّات إلى محترفها الأبهى في المشرق العربيّ.