في ذكرى ثورة «25 يناير»، يتكرّر سؤال سجالي في الشارع المصري: هل كانت ثورة أم «مؤامرة خارجيّة»؟ المؤكّد أنّ عشرات ملايين المهمّشين والمسحوقين احتفلوا برحيل حسني مبارك. هلّلوا ورقصوا ثمّ عادوا إلى أشغالهم لتأمين قوت يومهم. كثير منهم لم يداوموا في ميدان التحرير، لأنّهم لا يمتلكون «رفاهية» النضال. لم ينجرفوا مع سيل الثورة، كما لم يقفوا في وجهها. من البديهي أنّ أحلام التحقق والعيش الكريم بدأت تحوم في الأزقّة والعشوائيات المتهالكة، حيث لا خدمات أو حتى ماء للشرب. «نوّارة» (منّة شلبي) واحدة من هؤلاء. الفتاة المصريّة «الجدعة» تتحمّل مسؤوليات كبرى بابتسامة على وجه بريء. تجلب الماء للبيت، فيما تطمح لتحقيق حلم جدّتها في الحج. تصبر على زوجها (على الورق فقط) النوبي (أمير صلاح)، الذي يسعى لتأمين سرير لوالده في المستشفيات الحكوميّة المنخورة بالفساد والمحسوبيات (ناهيك عن سرير زوجيّة بسيط). تقطع مسافات للوصول إلى الفيلا التي تعمل فيها كخادمة. باستثناء حلم ساذج بالاستفادة من استرداد أموال منهوبة في عهد النظام السابق، لم تأتِ الثورة بجديد إلى عالم «نوّارة» الزاخر بالشقاء. وفق هذا المنطق الحيادي المنحاز للنّاس «الغلابة»، تدخل هالة خليل عوالم فيلمها الجديد «نوّارة» (122 د ـــــــ 2015)، الذي نافس على «المهر الطويل» في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير. طرح لا يشبه ذاتية إبراهيم البطوط، بل إنّه أقرب إلى «فرش وغطا» (2013) لأحمد عبد الله، فيما يحاول «بعد الموقعة» (2012) ليسري نصر الله التوفيق بين التوجهين، وإن من منظور آخر.
استمرار لواقعية محمد خان وعاطف الطيّب وداود عبد السيّد بصورة حديثة

السينمائية المصريّة (1977) ليست غريبةً عن الإنساني والاشتغال الاجتماعي. باكورتها «أحلى الأوقات» (2004) و«قص ولصق» (2007 - جائزة أفضل فيلم عربي وأفضل إخراج عمل أول أو ثان من «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» 2006) مثالان على الدراما التي تهوى خليل الاشتغال عليها. ليس مزاج السوق المصري الرائج، ولكن أمثال المنتج صفي الدين محمود موجودون دائماً. الرجل تحمّس لدخول عالم السينما، من خلال فيلم جاد يمثّل أصحابه لا أهواء الآخرين. الشريط نفسه يحاول التقشّف، والاكتفاء بعيّنات صغيرة عن طبقات ومجتمعات. هذه حال الكثير من الأفلام الخارجة عن سينما السبكي وأمثاله، منها جديد محمد خان «قبل زحمة الصيف» (الأخبار 14/1/2015).
«نوّارة» تشهد بعينيها التفاوت الطبقي المرعب بين أهلها وناسها، وبين عائلة صاحب الفيلا (محمود حميدة) وأصدقائهم وحتى كلبهم المخيف. مع ذلك، هي لا تحقد عليهم كما شقيقها الشرس، مع أنّها خير مرشّحة لذلك. على العكس، «نوّارة» تحبّ أهل الفيلا في صون فطري للفضل والعشرة. بعد رتابة محبّبة في استعراض اليوميّات، تنقلب الأمور بسفر العائلة إلى الخارج خوفاً من المساءلة. صاحب الفيلا يرحل مرغماً. هو مصدوم لزمن "تنتهك فيه مقامات النّاس التي كان يظنّها محفوظةً". كل شيء يُترَك في عهدة «نوّارة»، التي تتحوّل إلى حارس لأموال يؤمن غالبية الشعب أنّها من حقه. زوجها ينجرف في هذا التيار لبعض الوقت، معتقداً أنّها الفرصة الأمثل للزواج والاستقرار. المفارقة أنّ عائلة المليونير المسافر تقتحم المكان كاللصوص، فيما يعمل الفقراء على حمايته.
منتشلةً من واقعية روسيليني ودي سيكا وفيسكونتي الإيطالية، هكذا تبدو «نوّارة». استمرار لواقعية محمد خان وعاطف الطيّب وداود عبد السيّد وخيري بشارة، بألوان أخرى وصورة حديثة تبعث على التفاؤل، رغم ألم الطرح والنهاية المفتوحة (سينماتوغرافيا زكي عارف). موسيقى السوريّة ليال وطفة حاضرة كالعادة في خدمة الدراما. على صعيد الأداء، تتوهّج منّة شلبي في واحد من أفضل أداءاتها. لقد نضجت كثيراً منذ عذوبتها الأولى في «الساحر» (2001) لرضوان الكاشف. إحدى خصالها الحميدة أنّها لا تأبه لحماقات الفنّ النظيف وحسابات النجوميّة. ليس غريباً أن تظفر بجائزة «أفضل ممثّلة» في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير. محمود حميدة مكسب معتاد لأيّ عمل يشارك فيه. أمير صلاح يحقق قفزة سارّة في مسيرته كممثّل، بعد أدوار عدة بسيطة. اللعب على علاقة حب بين شاب نوبي وفتاة مصريّة لافت في التناول والمعالجة. إنّه الذكاء الذي يُحسَب لهالة خليل في انتقاء المنظور Perspective، والانسلال إلى وعي المتفرّج بخفّة ومهارة.