في كلّ مرة أقرأ فيها أشعار الشاعر الكبير فؤاد حداد، أتأكد من رسوخ بعض القيم الأصيلة في الشعر. سمات موجودة في كل شعر وفي كل شاعر أحببته، مهما كان اسمه أو اللغة التي يكتب بها قصائده، أقصد تلك القيم التي تبقى دائماً من الفن في كل العصور، القيم التي لا تزول بزوال مناسبات الزمن وموضاته وهلوساته، وأهم هذه القيم من وجهة نظري في أشعار فؤاد حداد تتمثل في:ـ أولاً: الإيمان الكامل بدور الكلمة وقدرتها على التأثير. آمن فؤاد حداد بهذا الدور في وقت باكر جداً، وفي لحظة اختيار هوياتية مهمة بالنسبة إليه وللثقافة العربية، حين وجد نفسه يختار بلاده بإرادته، ويتبنى صوتها ويحكي حكايتها، ويخلد تراثها ويبني في قصيدتها العامية أول بناء شعري قوي ومتماسك يأخذ صورة الشعر الجديد نهاية النصف الأول من القرن العشرين. قصيدٌ عامي، فيه من الثقافة الرفيعة للمثقف العروبي الذي يفهم قضايا وطنه ويشعر بمجده القديم، مثلما فيه من الخيال والأحلام والأفكار والأهداف التي تدافع بصلابة عن إنسانية الإنسان وعن حقه في العيش بحرية وكرامة، عبر نسيج لا يتوقف عن الإفادة من التراث الموسيقي والمفردات والموتيفات الشعرية الدارجة في الشعر الشعبي المصري، من «الموّال» بأشكاله المختلفة إلى «الزجل» إلى «الغناء». لقد كان فؤاد حداد أول من كتب بلاده بمزاج يجمع بين الثقافة الفرنسية وتجلياتها من بودلير إلى رامبو وأراغون وثقافة تراث الشعر المصري الغنائي ذي الإيقاع الراقص والقضايا الاجتماعية الرنانة. لقد كان أول شاعر مصري يجد صوته الشعري الخاص في زنازين النظام، حين كان مسجوناً من طراز خاص يكتب قصائد «ترفيه» يغنيها للسجناء في سجون حكومات ما بعد الثورة 1952، ومنها قصيدته الشهيرة «طارطور»:
«كان عندي طاقية طاقية شقية
من شقاوتها بقيت طارطور
اعرض العرض وطال الطول طال طول
الست في عينك على ستة
الهدمه تزهّر ع الجتّة
اِتاكل من مخك حتة
والعاقل باع المعقول
قال قول».
ومثل الشاعر العظيم بيرم التونسي، اختار فؤاد حداد أن يكون شاعراً عربياً يعيش في مصر، وفي اللحظة نفسها اختار اللغة التي يكتب فيها شعره وهي العامية، في حين ظلت قناعاته بدور الكلمة وقدرتها على التغيير كما هي. قناعاته التي انتقلت معه من قوة الكلمة في اللغة الفرنسية إلى قوتها في العامية المصرية، وهو اختيار نادراً ما يحدث، لكنه حدث في هذه اللحظة المفصلية من عمر الثقافة العربية، أن ينتقل صاحب قريحة شعرية عملاقة مثل فؤاد حداد من الكتابة باللغة الفرنسية إلى الكتابة بالعامية القاهرية، ما أدى طبعاً إلى مضاعفة تأثير قصائده، خصوصاً تلك التي كتبها في السجن للتسرية عن سجناء محبوسين معه، على ذمة قضايا سياسية.


ثانياً: الوجدان «المسيّس» للشاعر هو من أهم القيم التي يمكن تعلّمها من تجربة فؤاد حداد. لعل نشأته في بلاد تعاني من ظلم الاستعمار كانت السبب الأول في تشكيل وجدانه على هذا النحو، لقد تلقى تعليمه الأول في مدارس «الليسيه» و«الفرير» في منطقة «باب اللوق» وسط القاهرة، وأصبح الشاب فؤاد قارئاً للشعر باللغة الفرنسية، وكانت محاولات كتاباته الأولى هي قصائد باللغة الفرنسية، لكنه انتقل بعدها للكتابة بالعامية مباشرة، في فترة كانت فيه العاميّة اللغة التي عوّل عليها المثقفون في بث روح الأمل والتفاؤل ونشر الوعي للتخلص من الاستعمار، نظراً إلى قدرتها ـ كلغة قابلة للتداول والحفظ السريع ـ على الانتشار والتأثير في الجماهير. وبالتالي حملت قصيدة العامية، الزجل في هذا الوقت، لواء الرفض، بما لها من القدرة على إثارة روح التمرد وتبنّي أفكار الجماعة والتعبير عنها بأدواتها وترجمة أحلامها وأشواقها وفق تصوراتها الجمالية الموروثة، مع التطوير في شكل قصيدة العامية وإضافة أشكال شعرية جديدة إليها، وهو الدور الذي لعبه فؤاد حداد، تحديداً في قصيدة العامية المصرية.
ثالثاً: مخاطبة الوجدان الإنساني العام، من أهم ما يمكن تعلمه من شعر فؤاد حداد، فهو شعر لا ينظر إلى الدين أو اللون أو العرق، ولا يرى إلا الإنسان مجرداً من كل انتماء، لأن الإنسان يكفيه أن يكون إنساناً مسالماً فقط لكي يستحق أن يعيش من دون أن يستغله أحد. لقد كانت الكثير من قصائد فؤاد حداد تمثل أفضل تمثيل أفكار «القومية العربية» كما يقول الشاعر والباحث محمود الحلواني في كتابه «خيال الضرورة ومرجعياته»، لافتاً إلى انخراطه في حركة نضالية عالمية تبحث عن الاستقلال والحرية، ومنها ترجمته للشعر الفيتنامي في ديوان «قال التاريخ أنا شعري أسود»، وديوانه «الحمل الفلسطيني»، وقصيدة «ملحمة الشهيد الإيراني» وغيرها.
أول من كتب بلاده بمزاج يجمع بين الثقافة الفرنسية وتراث الشعر الغنائي المصري


ختاماً، أحب أن أشير إلى أنني لم ألتق فؤاد حداد في حياتي، لكنني تعاملت لسنوات مع اثنين من أنجب تلاميذه ومحبيه هما الروائي الكبير الراحل خيري شلبي والشاعر الكبير الراحل محمد كشيك. ومنهما عرفت بعضاً من خصال حداد وميزاته، التي لا شك تتوافر في الشعراء العظام، أهمها أنّه كان يشجّع الموهوبين ويقف إلى جوارهم ويدعمهم بكل قوة وبشعره وقصائده أيضاً، وقد ظل على علاقة وطيدة بأصدقائه إلى درجة أنه كتب أغنية «الليلة يا سمرة» ــــ التي غناها في ما بعد المطرب محمد منير ـ لكي يلقيها في احتفال بليلة عيد ميلاد صديقه وزميل أيام السجن الشاعر والأديب النوبي زكي مراد (1927 - 1979). ظل حداد وفياً للفن الشعبي الأصيل المتغلغل في وجدانه. يقول الشاعر والباحث مسعود شومان في كتابه «المؤتلف والمختلف»: «إذا كانت الجماعة الشعبية قد توّجت شعرها الشعبي بالموّال بأنواعه وأشكاله المختلفة، فإنّ حداد قد راهن على الموال وقدرته على «تزهير» نصوصه، عبر هضمه لتراث الموال الشعبي وعبوره إلى موال حدادي لا ينتسب إلا إليه»:
«بنغني موال على المنوال وبنولف
والدنيا أحوال إشي يكلف وإشي يكيّف
بنغني سخنين وإذا بطلنا هنجيّف
إحنا اللي وارثين صفاتك دمنا خفيّف
من حبنا في السلامة كل ما نسيّف
ونصيب نهيف
يا عين يا ليل
ونغني بالموال
وقالت الست الوالدة
ما تبطلوش الموال دا
يغنيك غنى ويمولك موال»

* شاعر مصري