خلال «مهرجان القاهرة السينمائي الدولي» الذي اختُتم قبل أيام، عُرضت تجرُبتان لبنانيتان مُختلفتان من حيث الشكل؛ لكن متآلفتان في مضمونهما السردي. «أرض الوهم» Mother Valley لكارلوس شاهين، و«بركة العروس» Riverbed لباسم بريش، متوافقان في ثيمتهما الرئيسية التي تقارب وضع المرأة داخل المُجتمع اللبناني، ومُنسجمان داخل الحيّز المكاني، يتحركان داخل طبيعة الأرض وتضاريسها بشكلٍ يجعل البيئة المُحيطة جُزئيّة مُهمّة داخل السردية. يندرِج العملان في حيّز القهر، وقمع المُجتمع للمرأة، وبالتبعيّة قهر المرأة لأبنائها كتفريغ للقمع الاجتماعي، ومحاولتها للاتساق داخل المؤسسة الأبوية. في «أرض الوهم»، يبني كارلوس شاهين سرديّته على وقائع تاريخية، وحقائق اختبرها بنفسه وعاشها لسنوات. هكذا، يؤسّس سرديّته داخل حقبة زمانية مُعيّنة، أي عام 1958 وقت اندلاع «بروفة» الحرب الأهليّة اللبنانية. يبدأ بتقديم الشخصيّة الرئيسية، ليلى (مارلين نعمان) زوجة شابة لأحد أثرياء العائلات المارونية، وأم لطفل يبلغ سبع سنوات. من خلال المواقف، يُمرر لنا المُخرج الصبغة الاجتماعية لأثرياء المارونية في منتصف حربٍ أهليّة، وينبُش في عُمق عائلة ليلى، فنرى والدها المُتسلّط وأخوتها المتمرّدات اللواتي لا يجدن مفراً من مواجهة المصير نفسه الذي خاضته ليلى في عُمرٍ صغير، والزواج من رجُل يكبرها لا تكنّ له أي عاطفة أو مودّة. من العُمق التاريخي، يتحدد المكاني، فبنات العائلات وخصوصاً الأمهات، لا يتحركن كثيراً إلا بصُحبة أحد ما. تتعرّف ليلى إلى شاب فرنسي، فتقع في حُبه، ومن هُنا تشتعل أولى شرارات التمرّد، فالانتقال داخل المكاني محظور، خصوصاً مع وجود ابنها الصغير كرقيب، لكنها اختلست الزمان، وانسلّت داخل غياهب الطبيعة اللبنانية لتكتشف ذاتها من خلال الشاب الفرنسي. كُل هذه الخواص تفرض على البطلة نسقاً معيناً في الحركة، على عكس «بركة العروس» الذي يتشارك لحظات الاختلاس المُكثفة نفسها، لكنه ينطلق من عنفوانٍ مرئي لدى المرأة، عارضاً الرقابة الاجتماعيّة في أشكال كاريكاتورية وكوميدية. يسخر الشريط من أنماط القمع الاجتماعي، يضحك من لُغته القديمة وأساليبه التقليدية، ويفسح المجال للمرأة المُستقلة سلمى (كارول عبود) للتحرّك في المكان بشكل أكثر حُريّة ولو ضمن إجراءات احترازية لمقابلة عشيقها. على العكس من بطلة فيلم «أرض الوهم»، سلمى مُجرّدة من الوصاية الأسريّة، غير مُنضبطة على وتيرة أو روتين يكبح عاطفتها، رغم أن المجتمع ذاته مُصمم على الكبح والمنع. غير أن بناء الشخصيّة مُنفلت من الهيكل المُقدس للأسرة والزوج والأبناء ما وفّر مساحة لمُمارسات مُتطرفة بالنسبة إلى العرف الاجتماعي على هامش الحُب والجنس. بيد أننا نُفاجأ بعودة ابنتها ثُرية (أمية ملاعب) إلى المنزل، منفصلة عن زوجها وحاملاً في أشهرها الأولى، لتسقُط سلمى في هوّة الماضي، فعودة الابنة تثير ثيمات النبش في الزمان.

كارول عبود في «بركة العروس» لباسم بريش

ينشغل كلا المُخرجين، لا إرادياً، بالمكان، يستغرقان في نسق أقرب للشاعريّة. يحرص كارلوس شاهين على دمج حضور الشخصيّات بالحيز الطبيعي للمُحيط الخارجي، ليمزج الحضور المكاني للبلدة والنموذج الاجتماعي بالامتداد الطبيعي للبيئة. لعلّ تلك المنهجيّة لا تتعلق بالتأريخ لحقبة معينة، بل بالحضور الطبيعي كجُزء مُهم من جغرافية المكان وديموغرافية السكان. لذلك، فالتجربتان ترصُدان المُجتمع داخل إطار الطبيعة اللبنانية، وهذا يسمح للإيقاع بالتجدد، وفقاً للنسق والكيفية.
يطوّع كارلوس شاهين لقطاته وتسلسله المشهدي لتكون نقاط ذروته المؤقتة مطوّقة بالأخضر الطبيعي أو البُني الأرضي، بل يمنحها طابعاً جنسياً، إرادة شبقة تتحرّك بمعزل عن الشخصية الرئيسية. فالمساحات الضيقة بين الأشجار وجُدران الكنيسة المنصوبة على الجبل مثل المسيح المصلوب، أو الأماكن التاريخية في جوف الطبيعة، توفر شعوراً بالانحجاب والاختلاس، ما يُعزز الحُرية المستلهمة من إرادة الجسد. الفكرة أن بطلة الفيلم ليلى، تُمارس «خطيئتها» بالقُرب من ابنها، حتى ستار الليل أو جُدران الجبل لم يوفرا لها الإمكانية التي تحظى بها سلمى في «بركة العروس». فسلمى تُمارس حُريتها المتمثلة في الحُب والجنس بعيداً عن الضيعة، عند بركة مياه ضخمة، أو فوق جبلٍ جامح، لكن العادة أكسبتها الثقة الكافية للمصالحة مع الذات. ومن هُنا نرى الطبيعة في فيلم باسم بريش بعين أكثر رقة وشاعرية. يخلق المخرج إيقاعاً تأملياً يميل إلى التدفق السردي عن طريق الصورة، من دون مونولوجات خارجية أو داخلية. يؤسس لدراما تبدو ثانوية، لا ينزع للميلودراما، فيورّط بطلته في مُشكلة داخليّة، ولا يجنح إلى العالم الخارجي إلا كوسيط، ويقتصر تعاطيه مع المجتمع في حالتين: الأولى هي السُخرية والمواقف الكاريكاتورية، بحيث لا يأخذ المنظومة الاجتماعية على محمل الجد، ولكنه في الوقت نفسه يفحصه بعين واعية. والثانية هي الرؤية الطبيعية للمكان، والانتقال في لقطات ثابتة بين المناظر الطبيعية في استهلال لمُغامرات سلمى ورحلتها التي تخرج عن نطاق الحي، فيسمح للسردية بالتحرك داخل المكان، ويشغل الكادر بمنظور ولقطات تكشف عن فلسفته، فيتعمّد استخدام لقطات واسعة، ليتبدّى الإنسان كطُفيلي في حضرة الأرض بتكويناتها الفسيحة وتضاريسها الهائلة. الإنسان في واقعهِ الهامشي مُجرد حصى صغيرة مُقارنة بالطبيعة، ما ينعكس على حالة النشوة داخل غياهب الطبيعة، والتيه الذي يُرافق الأبطال داخلياً. رُبما ينجح الأبطال بالتنقل داخل المكاني ولكن المُخرِج يريد تصدير صورة بعينها تُرسي نوعاً من الانحلال والهيام داخل طبقات الطبيعة، سواء في لقطات فوقيّة عالية، أو لقطات أخرى واسعة على البركة أو من فوق الجبل. إلى جانب ذلك يحاول باسم بريش في فيلمه رصد المُفارقة والهوة المتسعة بين الأجيال، سواء الأجيال المحافظة الأكبر سناً، التي ما زالت تتمسك بالقيم الشعبويّة والتقاليد المُطعّمة بالصبغة الدينية، مروراً بالبطلة التي تمثل جيلاً أكثر استقلالية وأقل إيماناً بالرؤى الشعبية والدينية، يجسد انعزالاً فكرياً عن الحياة الاجتماعية، ولكنه يظل قادراً على الانخراط الاجتماعي كشخص فاعل داخل النظام الشعبي، ولكنه لا يؤمن بالضرورة بتلك الأنظمة مثل الأسرة والترابط، وصولاً إلى الابنة ثُرية الأكثر تمرداً لدرجة الانفصال التام عن الأسرة. وقعت سردية باسم بريش داخل هوّة الركود في بعض الأحيان، حاول المُخرج دفع سرديّته عن طريق شريط الصوت الذي يصدح بموسيقى وأغنيات عربية جميلة، لكنه لم يستطع ضبط الإيقاع بالشكل الكافي. فالموضوع ليس له علاقة بخلق إيقاع شاعري أو صُنع صورة سينمائية بقدر ما له علاقة بالسيناريو الذي يعدّ أكثر العناصر فقراً داخل المنظومة.
يبني كارلوس شاهين سرديّته على «بروفة» الحرب الأهليّة اللبنانية عام 1958


من جهته، كشف كارلوس شاهين عن أكثر من جانب تاريخي واجتماعي لبناني من دون أن يحيد عن السرديّة الأساسية المُكثفة بشخصيات ووقائع لها صدى تاريخي ما زال حاضراً حتى الآن. شبكة من العلاقات المُعقدة نراها من منظور ليلى المُعذبة الراضخة للعادات والتقاليد، بيد أنها تجرؤ على كسر العقد المُقدسة وتُمارس الجنس مع شاب في عمرها. تتمرد وتندفع داخل دوامة من التساؤلات والضغط تنعكس على ابنها الصغير، الذي بدوره يُريد دبابة كهدية في عيد ميلاده، كإشارة واضحة للمجتمعات التي تُربي العُنف وتغذي العُنصرية، فكُل الأحداث تدور في إطار جنسي أو سُلطوي أو طبقي. العائلة ترى نفسها، كمالكة للأرض، أقوى من كُل شيء، خصوصاً مع اندلاع الحرب الأهلية والتعصّب المكشوف ضد الطوائف، بالإضافة إلى إسقاطاته وإشاراته المُبطنة للسيادة الدينية واللاهوتية على القرار والمُجتمع، ورصده لمنهجيات غير مُباشرة تُغذي النظام الأبوي.
قدّم المُخرجان القضية ذاتها لكن بأبجدية مُختلفة، ولُغة سينمائية متميزة وجريئة، واستحقا جوائز «مهرجان القاهرة»، إذ منحت لجنة مسابقة «آفاق السينما العربية» جائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم عربي لـ«أرض الوهم»، فيما نال «بركة العروس» جائزة صلاح أبو سيف ــ جائزة لجنة التحكيم الخاصة، إلى جانب حصول كارول عبود على جائزة أفضل ممثلة.