انطفأ أمس، في صنعاء، الشاعر عبد العزيز المقالح (1937- 2022)، أحد أعمدة الحداثة والفكر التنويري في اليمن، منذ ستينيات القرن المنصرم إلى اليوم. هكذا امتزجت سيرته بسيرة المكان، إذ يصعب تخيّل صنعاء من دون أن تحضر صورة صاحب «كتاب الأصدقاء» كمرآة عاكسة للروح اليمنية المتوثّبة، هو الذي اقتبس عبارة الإمام أحمد بن حنبل «لا بد من صنعاء وإن طال السفر»، مستقطباً عشرات المثقفين العرب والعالميين إلى أرض بلقيس ومأرب وسبأ. وكان «مقيله» منارة ثقافية لا بد من أن تطأ عتبتها وإلا لن تكتمل الزيارة. أسهم المقالح في تأسيس جامعة صنعاء، و«المجمع العلمي اللغوي»، و«مركز الدراسات»، وإطلاق أكثر من مجلة ومنبر وندوة بوصفه أباً روحياً لكل الأجيال اللاحقة في اليمن، مزاوجاً بين الشعر والنقد، فاتحاً ذراعيه نحو مختلف التجارب العربية. بمعنى آخر، كان مفرداً بصيغة الجمع، لجهة التحليق عالياً، والتشبث بالمكان في آنٍ واحد، فقصيدته وفقاً لما يقول الناقد عبد الحميد الحسامي «ظلت في حالة إصغاء»، كأنها ترجيع لأصوات السياب، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس على نحوٍ خاص، من دون أن يتخلى عن روحه المحلية، خصوصاً في دواوينه الأخيرة التي احتفلت بالمكان. كما استعاد سيرته شعرياً، بنبرة خافتة تنطوي على تمرّد خفي وشجنٍ طويل. من جهةٍ أخرى، يشير الشاعر إبراهيم الجرادي إلى أن تجربة هذا الشاعر الرائد تقع في باب «الحداثة المتوازنة»، في تأرجحها بين الإيقاع من جهة، والنثر الشفيف، من جهةٍ أخرى، كما لو أنه «بحة ناي مجروح وخطاب أسى وضراعة وسخط ويأس». ذلك أن تمزّق خريطة بلاده وضعه في مقام الخذلان. لكن كيف الطريق إلى صنعاء في ظل حرب ضارية؟ على الأرجح أحسّ صاحب «هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي» بالعزلة، بعدما كانت صنعاء حضناً للأصدقاء، فانكفأ الشاعر إلى يأس مقيم، ووحدة قسرية في مقيله الذي افتقد صخب الآخرين: «لم يعد سكان المدن يستمعون إلى الموسيقى والأغاني والمواويل، وإنما إلى أصوات الصواريخ والمدافع وأزيز القذائف. ورائحة الدم قتلت في نفوس المتحاربين المشاعر النبيلة، وحوّلتهم إلى وحوش، لا يلذّ لهم سوى القتل» يقول.
ما بين برزخ «الإمامة»، و«الجمهورية»، عمل المقالح بأدوات المثقف العضوي طويلاً، حاملاً راية الشاعر والناقد والأكاديمي بيدٍ واحدة، متطلّعاً إلى يمنٍ آخر، لكنه واجه فداحة الخسارة بجرعات متعاقبة، فانطفأ وحيداً «إنني مفجوع وحزين وخائف حتى العظم، ولكنني لم أصل بعد إلى مرحلة اليأس» يقول.
في استرجاع منجزه النقدي، سنقع على رؤية ثاقبة في مواكبة التجارب العربية، مؤكداً أنّ «سيادة موجة واحدة أو انفرادها بالساحة، كلّ ذلك يدمّر الإبداع ويسجنه في قفص التقليد والتكرار والمحاكاة». من هنا نافح صاحب «الخروج من دوائر الساعة السليمانية» نقدياً عن التجارب الطليعية العربية، من دون أن يغلق الدائرة على مجايليه، إنما التفت إلى مقترح الموجات الشعرية اللاحقة، منبهاً إلى ما هو مشعّ ومتفرّد.
عدا حضوره الشخصي، ما يميز تجربة المقالح «جنوحه نحو التجريب»، والانتقال من عتبة إلى أخرى، ما وضعه في الواجهة، شعرياً ونقدياً، ولعل أطروحاته كـ«الشعر بين الرؤيا والتشكيل»، و«أزمة القصيدة الجديدة» تمثّل بمقياس عالٍ روحه المتوثّبة نحو ما هو طليعي وخلّاق.
بفقدان عبد العزيز المقالح، يخسر اليمن عموده الثقافي الشاهق، وبغيابه، يصعب أن نردّد بثقة «لا بد من صنعاء وإن طال السفر».