كلما تساقطت الأمطار في أول الشتاء، يقود السيارة ساعتين ليصل إلى القرية ويراه هناك: صبيّ في السادسة عشرة من عمره يستجمع أنفاسه ليصارح عائلته بنيته عدم الانضمام إليهم في قطف العنب كما يحصل منذ بات يؤتمن على مقص الدوالي وبوسعه أن يطال العناقيد، ليفتح في المقابل متجره الخاص بقوارير الغاز يوصلها «دليفري» إلى المنازل في مكان وزمان لم يألفا «الدليفري». كان شعره الطويل و«الووكمان» وصور زياد الرحباني على كتبه المدرسية دليل تحرره، بالنسبة إليه. في السادسة عشرة من عمره، كان يمكن أن يتلعثم في الحسابات والفيزياء والكيمياء، لكن لا يفوته حرف من مسرحيات زياد. يُسأل عن علاماته في المدرسة، فيستعين بزياد للقول إن زملاءه في الصف لا يتركون له علامات؛ يأخذونها كلها ولا يتركون له غير الأنصاف. يُسأل وأصدقاؤه عن بيت فلان في قريتهم، فيتخيلون أنفسهم زياد وجوزف صقر ونبيلة زيتوني وسامي حواط يدلون صاحب «البيك آب» كيف يتبع سائق التاكسي إلى «ساندي سناك». ثم يفاجئون صاحب لـ«سناك» في قريتهم بطلب «الهمبرغر الطيب يلي داخله كاوتشوك»، وهو لم يسمع «نص الألف خمسمية» لزياد فيضيع في أمره وأمرهم. لم يكن عالمه الصغير يتسع في السادسة عشرة من عمره لحماسته وهو يرى ويسمع مباشرة على المسرح أمامه سامي حواط يحيي حفلة لجمعية «النجدة الشعبية» بعد سنوات من معاقرته لكاسيتاته، فيرندح مع نفسه – أمام المرآة – دخلك على شو شايف حالك، ولن يصدق لا هو ولا حواط نفسه أنه طلب منه «أوتوغرافاً»، كما شاهد المعجبين يفعلون مع النجوم في الفيديوهات. في السادسة عشرة من عمره، كان يجمع وشقيقته «المصروف» أسبوعاً كاملاً لاستئجار فيديو، يكرران مشاهدته عدة مرات قبل أن يحين موعد إرجاعه. كان قد أنهى قراءة كل ما رُوي كتابياً عن الحرب الأهلية؛ يعرف عن جنفياف، زوجة بيار الجميل الجد، مؤسس «حزب الكتائب» أكثر مما يعرف عن جدته لشدة تقديس الجيل الكتائبيّ الأول لها. ويروي لساعات كل ما أبدعته مخيلة الأحرار عن مشاوير الرئيس كميل شمعون إلى الصيد. وإذا كان للعصر الذهبي للإسلام قصص «ألف ليلة وليلة»، فإن للعصر الذهبي للموارنة قصص صيد الرئيس شمعون وصيدلية الشيخ بيار. وهو إذ كان يسمع مسرحيات الرحابنة عبر الكاسيتات، فإنه كان يقلد زكريا في «بالنسبة لبكرا شو» و«فيلم أميركي طويل»، قبل أن ينتقل عبر المرآة نفسها، لتقليد خطباء الكتائب إدمون رزق والياس ربابي وأحياناً لويس أبو شرف، ثم يجاري بيليه في تنطيط الكرة في الحمام الضيق، فيكسر المرآة. وهو في السادسة عشرة من عمره، كان مع زياد وسامي ضد «الإمبريالية»، ومع جنفياف ضد البيوتات الإقطاعية، ومع داني ضد الفلسطيني، ومع عون ضد السوري، ومع نجاح واكيم ضد رفيق الحريري، ومع غسان كنفاني ضد كتب المدرسة وصفوفها المملة؛ خليط يبدأ بما يتيسر له من كاسيتات يسارية تأتي بها شقيقته الأكبر منه إلى المنزل وينتهي بحدود البلدة اليمينية ككل البلدات المسيحية.
في السادسة عشرة من عمره كانت طرابلس هي المدينة، أما بيروت فمجرد مطار يستقبل ويودع فيه. طرابلس البالة التي يزورها في بداية كل شتاء لاستبدال جاكيت العام الماضي بجاكيت أكبر لا أجدد، طرابلس التي تبتدع حلولاً لا يعرفها نهر البارد لدواليب البيسيكلات. طرابلس بوظة البلحة في الميناء التي يقول له عم والده إنه كان يسير وأشقاؤه من البلدة التي تبعد ساعة بالسيارة للاستمتاع بمذاقها والعودة. طرابلس المكتبة الممتدة على جانبي الطريق التي سيأخذه الشغف بها، فيفضلها على دور السينما المهجورة التي تعرض أفلام إيروتيك توصل الليل بالنهار، طرابلس الدكانة والعيادة. في السادسة عشرة من عمره، كان يرتدي الحذاء نفسه من عيد إلى عيد، ولا يستبدل كنزة الصوف بأخرى حتى تصبح أكمامها الشتوية نصف كم بالنسبة إليه. في السادسة عشرة من عمره، كان للمال قيمة، لخيطان الصوف، الأعياد، «الصبابيط»، الهمبرغر التي يشتريها مرة في الشهر من سناك الضيعة أو تحضرها لهم والدتهم في احتفالية كبيرة يجب أن تسمع القرية كلها بها، وتنك النيدو التي تمتلئ بالـ«غلل»، و«الغاتو» من عيد إلى عيد. وكان يفترض أن كل ما يسمعه في الكاسيتات، وكل ما يقرأه في الروايات حقيقيّ جداً، وأن الثورة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والوطن هي مرمى حجر. كان يحفظ أسماء اللاعبين في منتخبات وفرق كرة القدم حول العالم، وأسماء زوجاتهم وأولادهم وطولهم ووزنهم وأحجام أرجلهم، مفترضاً أن حماسته لهم ممكن أن تغير في مسارات الكرة التي تتقاذفها الأرجل وعلاقتها بالشباك. وكان يستغرب لا مبالاة أولئك الذين لا يعيرون هجمات 11 سبتمبر أي اهتمام والاحتلال الأميركي للعراق ووفاة الرئيس السوري حافظ الأسد، مستفزاً من استسلامهم للأحداث القريبة والبعيدة دون أدنى شعور أو إيمان بقدرتهم على تغيير التاريخ. في السادسة عشرة من عمره، كان يقف أمام المرآة الصغيرة في البيت القديم الكبير مفترضاً أن كل ما قرأه أو سمعه صحيح، وأن بوسعه تغيير التاريخ والجغرافيا وأشياء كثيرة أخرى.
يراقبه من خلف الشباك الذي جعله تراكم الغبار في المنزل المهجور داكناً. في ترحاله الدائم، ذهاباً وإياباً في الزمن، يحاول الكاتب الفرنسي غيّوم ميسو دائماً تنبيه أبطاله إلى حدث ما بوسعه تغيير تسلسل الأحداث. حمل كتب غيوس ميسو معه في السيارة هذه المرة؛ كأنه يتسلّح بها. وضعها عند حافة الشباك وذهب ليبحث عن المرآة القديمة، محاولاً إيجاد بعض القواسم المشتركة في ملامحه مع ذلك الطفل النحيل الذي يلعب في الخارج. كيف يمكن أن يخبره أن الشارع الصغير قبالة منزله ليس ملعباً أولمبياً، ولا الحجرين في آخر الشارع مرمى دولي، ولا الأطفال الأصغر سناً الذين يحتفلون بالأهداف جماهير غفيرة. هل يخبره أن الولايات المتحدة ستنسحب من أفغانستان والعراق (جزئياً) دون أن يكون له أي علاقة باحتلالها للعراق وانسحابها منها؛ تماماً كما سيخرج الجيش السوري من لبنان دون أن يكون له أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع، وأنه كان يغفو في الخيمة في ساحة الشهداء حين أعلن الرئيس عمر كرامي انعطافة التاريخ باستقالة حكومته عام 2005. هل يخبره أنه لن يبقى له صديق واحد ممن يفترض أنه سيمضي العمر معهم، وأنه لن يذكر بعد سنوات ماذا حصل بكل «الغلل» في تنكة النيدو، وأنه سيشتري في يوم من الأيام حذاءين أو أكثر مرة واحدة من دون أن يكون حذاؤه قد اهترأ بعد، وأن خزانته ستحتوي في يوم من الأيام كميةً لا يمكن أن يصدقها من القمصان والجاكيتات، وأن أبناءه سيتحدثون بين بعضهم البعض والآخرين بالطريقة البيروتية نفسها التي يهزأ وأصدقاؤه منها، وأنهم سيشترون كل أسبوع لعبة من تلك التي كان يحلم بها من عيد إلى عيد، وأنهم لا يشبهونه بشيء حين كان بعمرهم. هل يفتح الشباك ليخبره أنه سيغير الكثير من أحلامه عاماً تلو الآخر وإيمانه وقناعاته في ما يخص جنفياف وزلفا وطموحاته وأهدافه لكنه لن يغير التاريخ كما كان يتخيل أمام مرآته أو الجغرافيا أو مجريات الأحداث، وأن منتخب البرازيل سيبقى هو نفسه حتى حين يقرر الانتقال إلى تشجيع غيره، وأنه كبّد نفسه عناء التفكير والانشغال بأمور لا ناقة له فيها ولا جمل فيما كان أصدقاؤه يستمتعون بالحياة السطحية كما كان يسميها، وأن العالم لا يبدأ وينتهي في مطار بيروت كما كان يتخيل، وأنه لن يجد بسطة روايات مستعملة واحدة مهما صال وجال في طرابلس بعد بضع سنوات فقط.
سيستجمع شجاعته بيد وقفزات ميسو في كتبه في الأزمان باليد الأخرى ويفتح الشباك بكلتا يديه ليطلب منه الاقتراب؛ لكنه لن يعيره أي اهتمام، وحتى حين يرفع صوته ليخبره بمجريات الأمور لن يتوقف عمّا يفعله أو يوحي بأنه سمعه، مكتفياً بالالتفات إلى الشباك عند انتهاء الواقف هناك من الكلام لسؤاله بكل هدوء عما يدفعه إلى النظر مراراً وتكراراً إلى الوراء طالما هو لا يذهب بهذا الاتجاه، متمنياً عليه الاستعاضة عن تخيل نفسه قبل 27 عاماً، بتخيل نفسه بعد 27 عاماً.