1- الوسادةالآن أصبحَت الوسادة
حارّةً من الجهتين،
وها هي الشّمعة الثّانية تذبل ببطء
والغراب يصرخ بلا نهاية.
لم أستطع النّوم طوال اللّيل
وقد فات الأوان على التّفكير في النّعاس.

هذا البياض كثيرٌ جداً ولا يُحتمل،
السّتائر والنّافذة،
فمرحباً أيّها الصّباح!

2- قراءة هاملت
إلى يمين المقبرة،
ثمّة أرضٌ شاسعة،
خلفها يجري النّهر بارداً وأزرق.
قلتَ لي: «اذهبي إلى الدّير أو
ابحثي عن أحمق يرضى الزّواج بك»
أعلمُ أنّ هذا ما يتفوّه به الأمراء عادةً،
لكنّني لن أنسى كلماتك أبداً،
دعها تتدفّق دائماً
لسنواتٍ عديدة،
هكذا دواليك،
مثل فروٍ من فوق الأكتاف.



3- ما زلتُ أحبّك
هكذا وعن غير قصد
قلْتُ لكَ «أنتَ» المألوفة
وإذ بوميض ابتسامة
تضيء وجهكَ من جديد.

أخطاءٌ عفويّةٌ وساذجة كهذه
كفيلة بجعل أكبر النّيران تندلع
نعم أحبّك،
بحنانٍ يفوق عاطفة أربعين أختاً.

4- مكتوبة لك
كلماتك متجلّدة وعيناك مجنونتان،
وتعترف بحبّك لي،
قبل لقائنا الأوّل حتّى.
لكنّني مكتوبةٌ لك
ومنذ عصور
يدفعني المصير
لأعبر البحار نحوك.

ومن دون معرفة اسمك
أو مَن تُشبه،
عرفتُك،
تماماً كالفجر الذي ينبت من جوف اللّيل.

5- ادفنيني أيّتها الرّيح!
ادفنيني
ادفنيني أيّتها الرّيح
فوقي السماء خافتة
والأرض تتنهّد بهدوء
ولم يأتِ أحدٌ من أقاربي!

أذكر أنّي كنت حرّةً مثلكِ
لكنّني طمعْتُ بأن أحيا أكثر
وها أنتِ الآن،
ترين جثّتي الباردة ولا أحد فوقها،
ليطوي ذراعيّ.
أغلقي هذا الجرح الأسود
كفن المساء المنتشر هنا وهناك
ها هو الضّباب اللّازورديّ فوق رأسي
يأمرني بقراءة المزامير.

حسنًا فلْأهدأ وأخفّف الأمر عليّ.
وحدي،
سأذهب إلى النّوم الأخير،
في الأعالي.

6- الهايسنت الأبيض
المساء أزرق وداكن،
الرّياح هدأَتْ،
ضوءٌ ساطعٌ يناديني،
أتبعه وأتساءل: مَن هناك؟
أتراه فارس أحلامي؟
أتراه حبيبي؟

على الشّرفة: ظلٌّ مألوف وحديثٌ هادئ
إنّه الكسل الآسر،
لم أشعر به قبل الآن.

أشجار الحور قلقةٌ تتنهّد وتموج
تنتابها أحلامٌ دافئة،
والسّماء امتلأَت بالحديد الفولاذيّ
والنّجوم أضحَت شاحبةً وباهتة.

أحمل باقةً من الهايسنت الأبيض،
فيها أسرارٌ وشعلةٌ خفيّة،
مَن سيتناول الزّهور من يديَّ الخجولتيْن،
ويعانق كفّي الدّافئة.

7- أبيات جدّتي
ينبوع الشّمس هذا الصّباح في حالة سكر
ورائحة الورد تدوّي على الشّرفة،
والسّماء أكثر لمعاناً من الخزف الأزرق،
وفي يدي دفتر ملاحظات بغلافٍ من الجلد المغربيّ النّاعم،
أقرأ فيه مرثيّات وأبياتاً رومنسيّة
كتبتْها جدّتي.

أرى الطّريق إلى البوّابة وما بعدها.
أعمدةٌ بيض تلمع فوق عشبٍ كالزّمرّد،
أتساءل كم أنّ القلب يهوى بعمىً ورقّة!

أستمتع بتأمّل أحواض الزّهور اللّامعة
والغربان السّود يتصاعد صراخها في السّماء،
والأقواس العميقة داخل القبو.

8- الجحيم
انتظرْتُ لوقتٍ طويل
عند بوّابة الجحيم الضّخمة.
كان هادئاً ومظلماً،
أوه، حتى الشّيطان
لا يرغب بي!
إلى أين أذهب؟ ..

9- يعود زوجي الميت
امتنع القمر عن التّجوّل في السّماء،
والبرد، مثل خَتمٍ، طُبع على اللّيل،
زوجي الميت عاد فجأةً
لقراءة رسائل حبّي له.

داخل نعشٍ مصنوعٍ من البلّوط،
يتذكّر القلعة السّرّيّة
وخطوات قدميه الخشنتين الموثقتين برباطٍ حديديّ
فوق بلاطها.

يراقب مواعيد لقاءاتنا
ويتأكّد من التواقيع.
يا له من غريب!
ألم يكفِهِ ما لديهِ من أحزانٍ وآلام؟
ماذا جنى حتّى الآن؟

10- وحين أكتب
في غرفتي تعيش روحٌ جميلة
ثعبانٌ أسود وبطيء
مثلي تماماً،
كسولٌ، وبارد.

وحين أكتب في المساء
يجلس على السّجّادة بجانب النّار الحمراء
وينظر إليّ بعينين من الزّمرّد برّاقتين.
في اللّيل يسمع بكائي وأنيني،
لكنّ الأيقونات تصرّ على صمتها ولا تجيبني
ستكون صلواتي مختلفة
لولا عينا ذلك الثّعبان.

فقط في الصّباح أشعر بالضّجر،
حين يذوب مثل شمعةٍ رقيقة...
وينزلق بحرّيّةٍ كشريطٍ أسود
على كتفي العارية.

11- في الأحزمة الّتي على ظهرك
(إلى نيكولاي غوميليوڤ، زوج أخماتوڤا)

يومها كنتَ عائداً من المدرسة،
وفي الأحزمة الّتي على ظهرك،
حقيبةٌ وكتبٌ وقلم رصاص.

لم ينسَ الزّيزفون بعد، لقاءنا الأوّل،
أيّها الصّبيّ المرح.

والآن، كبرَت البجعة الرّماديّة الصّغيرة الّتي كنتَها،
وتحوّلت إلى أخرى متعجرفة.
وسقط عليّ الحزن
مثل شعاعٍ لا يموت،
وصوتي لم يعدْ يدوّي.

12- كان
كان يحبّ ثلاثة أشياء
قدّاس المساء،
الطّواويس البيض
وخرائط أميركا القديمة.
لم يكن يحبّ الأطفال عندما يبكون
لم يكن يحبّ الشّاي بتوت العلّيق
ولا هستيريا النّساء،
وأنا،
كنت زوجته!

13- الملك ذو العينين الرّماديّتيْن
إلى ألكسندر بلوك
لك المجد
أيّها الألم الّذي لا يُواسى!
رحل بالأمس الملك ذو العينين الرّماديّتين.

ذات مساءٍ خريفيٍّ قرمزيٍّ خانق،
قال لي زوجي حين عاد:
«لو تعرفين كيف أحضروه من الصّيد،
وجدوا جثّته أسفل شجرة بلّوطٍ قديمة.
الملكة تثير الشّفقة حقاً،
ما زالت شابَّة!
وفي ليلةٍ واحدة صار شعرها أبيض بالكامل»

ثمّ أخذ غليونه من أعلى المدفأة،
وعاد إلى عمله اللّيليّ.
أمّا أنا فركضت أوقظ ابنتي
لأتأمّل عينيها الصّغيرتين الرّماديّتين اللّامعتين.

أشجار الحور في الخارج تهمس بحزن:
«غادِر هذه الدّنيا، فمُلكك لم يعد على هذه الأرض.»
■ ■ ■

بسطَت شجرة الزّيزفون أغصانها على السّماء
مثل مروحةٍ من الدّانتيل،
في وجه السّماء الخالية.
ربّما كان من الأفضل بكثير
ألّا أكون امرأتك.

ينسى القلب ببطء ذكرياته عن الشّمس،
ماذا تبقّى؟
لا شيء غير الأسود؟
ربّما،
ربّما ليلةٌ واحدة تكفي لتحضير الشّتاء.

14- نقشٌ على صورة غير مكتملة
لا تتنهّد من أجلي،
فليس هناك ما يدعو للقلق.
الحزن عبثيٌّ جداً،
الحزن قاسٍ وتافه.

أمرٌ غريب، أن أخرج من «كانفا» رماديّة وأعبر الزّمن
لتحلّق ذراعاي في الأعلى،
وتستريحا.
ابتسمتُ بألم،
كنتُ مجبرةً دوماً على ذلك
خلال ساعاتٍ من السّعادة.

هو الّذي كان يريد ويأمر
بكلماتٍ قبيحة ومميتة،
كان فمي يشعر بالحمّى،
وخدّاي يتكلّلان بالثّلج.

ثمّ دون أيّ إحساس بالذّنب،
غادر ليحدّق في عيونٍ أخرى،
وتركني لسباتٍ مميت بلا أحلام.

15- كيف أنساه؟
أسفل الغطاء، يداي تتألّمان،
«لماذا تبدين اليوم شاحبة؟»
-لأنّني شربْتُ رغماً عنّي وحتّى الثّمالة،
الكثيرَ من الألم المرير.

كيف أنساه؟
غادر يترنّح يميناً وشمالاً ملتوي الفم من الوجع،
وتبعتُه مسرعة،
ركضتُ حتّى الباب وصرخت:
«قل إنّكَ تمزح. سأموت فوراً إن رحلْت»
ابتسمَ بكلّ هدوء وهو يرتجف،
«لا تبقي هنا، أخاف أن يؤذيكِ الهواء القويّ!»

* قصائد مختارة من المختارات الشاملة للشاعرة الروسية آنا أخماتوفا (1889 ـــ 1966) الصّادرة عن «دار النهضة العربيّة» بعنوان «ملكة النيفا آنّا أخماتوفا» (ترجمة وتقديم أماني غيث) ـــ توقّع أماني غيث الكتاب يوم الجمعة 9 كانون الأول (الرابعة والنصف عصراً) ضمن المعرض