بدا لي أنّها أقلّ اختباءً ممّا كانت في الأمس، وذلك بحسب ما وصفَ عزّت. رأيت وجهها وجسمها ظاهرين لا يحتجب إلّا جانبٌ قليل منهما. فكّرت أنّها ربّما تحتاج إلى أن تبقى ملتصقةً بالمشربيّة لتسرع إلى الاحتماء بها، خوفاً من ظهور أحدٍ يفاجئها. وكانت تتلفّت كأنما لتختار من بين الاتجاهات على أيّها تحطّ نظرها. لم أتأخّر إذن. لم يبدأ شيء بعد، ولا بأس أن أعود للحظة إلى غرفة نومي لأجيء بالنظّارات التي تجعل الرؤية أكثر وضوحاً.لم أستطع أن أحدّد في أيّ عمر هي. ليست صغيرةً بالطّبع، كما أنّها أكبر من أن تكون كبرى البنات في عائلة. هي امرأة، في عمر الأمّهات. ربّما في الخامسة والثّلاثين، ربّما في الأربعين. ومن هذه المسافة التي يزيد في تمويهها الضّوء الخفيف الآتي من مصباح الطّريق، تبدو من نساء البيوت اللّواتي يخطر لنا أن نطيل النّظر إليهن، أو على الأقلّ أن نرسل نحوهنّ نظرةً ثانيةً.

محمد فارس. «رجل على الحافة» (2018 ـــ طباعة. 42 × 36 سنتم)

مع أنّ تلفُّتها في الاتجاهات صار أبطأ، ومع أنّها كانت تُوقف ذلك لثوانٍ حين يتوافق وجهها مع اتّجاه جسمها، فتصير كأنّها تتقصّد النّظر إلى بنايتنا، إلا أنّ هذا لم يكن كافياً لعزّت. كان يريد أن يتأكّد، أن يأتيه شيء منها لكي يقوم هو بخطوته نحوها. حين تركتْ مكانها على الشّرفة ومشت عائدةً إلى الدّاخل، فكّرتُ أنّها لن تعود إلى الخروج ثانيةً. لكنّني بقيتُ حيث أقف، ممهلاً نفسي الوقت الكافي ليكون عزّت قد توقّف عن انتظار خروجها، فيتّصل بي.
هي رنّة واحدة استعجل عزّت قطع الاتّصال من بعدها، كانت المرأة قد ظهرت ثانيةً، واتّجهت لتوّها إلى درابزين الشّرفة، حيث ألقت أعلى جسمها إلى حافّته وخفضت رأسها كأنْ لترى شيئاً حدث في الأسفل. لم تُطل ذلك. نظرة واحدة فقط إلى الطّريق، وسريعة، نهضتْ من بعدها لتلقي نظرةً ساخطةً بل ومتحدّيةً كما بدا لي، إلى حيث يقف عزّت.
كان يجب أن يكون هذا كافياً. لكنَّ الاستجابة التي كانت المرأة تنتظرها لم تحصل. وهي لم تمهل الواقف هناك الوقت الكافي ليفكّر ماذا عليه أن يفعل. بحركةٍ سريعة أرادتها أن تبدو متنصّلة، أنجزت استدارتها باتّجاه الباب الذي، بحركةٍ حاسمة، أغلقته وتوارت خلفه.
– شو عْمِلت؟
– ما عملت شي.
– غلط.. كان لازم تعمل شي.
– متل شو؟ سألني بعد تأخّر ثوان كان فيها يفكّر ربّما بالشّيء الذي كان عليه أن يفعله. وقد أربكني بسؤاله الذي بدا لي يائساً أكثر من كونه متسائلاً. أما أنا فأفلتت منّي ضحكة، إذ رحت أتخيّله يرسم بيديه أشكالاً تنقل للمرأة ما كان ينبغي أن يقوله.
لم يُجارِ ضحكتي، مع أنّني كنت أقصدنا كلينا بها. فأنا مثله، لم أكن سأعرف ماذا أفعل لو كنت في مكانه. لقد مضت سنوات كثيرة على أيّام ما كانت ردود فعلنا تحدث بتلقائيّة، هكذا من دون تفكير يسبقها. آنذاك، في عمر أقلّ، كانت اليدان ستتصرفان لوحدِهما، وتذهبان إلى أبعد ممّا كانت تنتظر من أرسلتْ إشارتها الغامزة الأولى.
– قدّيش صار لك ما حكيت مع مرا؟
– (...)
– قصدي مرا تانية غير مرتك.
– من كتير سنين، قال، لمجرّد أن يجيب، إذ سريعاً ما انتقل إلى ما كان يَشغل رأسه:
– شفت كيف فاتت وسكّرت الباب؟
ليس السّخط وحده، بل الاحتجاج أيضاً. كأنّها كانت تقول إنّها أخطأتْ بما قامت به. إنّها ضيّعت وقتها من أجل شيء لم تكن رغبتها فيه مُلحَّة أو حتّى كافية.
هي
كما لو صيّادٌ صوّب على طيفٍ لمحَه ولم يعرف تماماً ما هو، هكذا أحسبني فعلت. استدرجتُه حتّى يصير ظاهراً أمامي، واقفاً لي، عارفاً أنّي له كنت أقف على الشّرفة. لم يكن يعني لي شيئاً مع ذلك. لو كان من يقف هناك أحد غيره، أيّ أحد، وعلى أيٍّ من تلك الشّرفات أمامنا، لربّما فعلت الشّيء نفسه. لكنّه وحده كان يطيل الوقوف هناك. الآخرون في الطّبقات الأخرى، الاثنَي عشر بعدد ما هي طبقات بنايتنا، لا يخطر لهم أن يخرجوا، ليروا الطّقس كيف انقلب عمّا كان عليه بالأمس، أو ليبهجهم فارق الضوء بين النهار والغرف التي يطفئون فيها أيّامهم، كما نطفئ نحن أيّامنا. ذاك أنّي مثلهم، ومثلهم أيضاً والدة زوجي التي تشاركني الإقامة في البيت، هي وخادمتها. لا أخرج، لكنّي أحرص على أن أقضي الوقت، حين لا أكون منشغلة، جالسة على المقعد الذي في وسط غرفة الجلوس، قبالة الباب الذي، حتى الآن، رغم مرور ستّ سنوات على انتقالنا إلى هنا، لا أعرف بعد إن كان زجاجُه يتيح للناظر رؤيةَ ماذا في الدّاخل وراءه.
ولسنا وحدَنا، نحن وهم، في هذا الحيّ الصّغير الذي تشقّه طريق السيارات، تلك التي لم تعد تعبر إلا قليلاً. هناك آخرون. إلى جهة اليسار، هناك بناية أقلّ ارتفاعاً من بنايتينا. ورغم أنّ حائطها ملتصق بحائطنا، إلا أنّني لا أهتم بأن أعرف من هم الذين يسكنون فيها، أو كيف هم. أحياناً أقول إنّها ليست تماماً في حيّنا طالما أنّ واجهتها الأخرى، أو شرفاتها الأخرى، تطلّ على الشّارع الذي يكثر فيه الازدحام، ازدحام الناس وازدحام السيّارات اللذان صارا قليلين على أيّ حال. كما أنّني أفكّر أنّ البناية الأخرى، التي تحتل الزّاوية المقابلة لها، القديمة، المهلهلة خشب نوافذها حائلة الطّلاء، ليست من حيّنا هي أيضاً ويجب، على كلّ حال، أن تُهدَم.
لسنا إلّا نحن وهم، أعني أولئك الذين نواجههم ويواجهوننا. كأنّنا استقلّينا عمّا حولنا، عن البنايتين الأخريين وعن ساكنيهما، وكذلك عن النّاس الذين يسيرون في الشّارع تحتهما. نحن وهم فقط. وإذ أعود وأفكّر أن لا اتّصال بيننا، ولا أيّ نوع من الاتصال، أقول إنّ ما يجمع بيننا هو المقارنات الّتي نجريها، كما لا بد أنّهم يُجرونها، حول كلّ شيء: حول مدخلَيْ البنايتين مثلاً، أيّهما أوسع وأيّهما أجدّ من الآخر، أو بين اتّساع مرآب السيارات عندهم وبين الشّجرتين اللّتين تظلّلان مرآبنا الأقلّ اتساعاً؛ أو نتساءل نحن الذين هنا إن كانوا هم، الذين هناك، يشعرون بأنّنا حقّقنا سبقاً عليهم حين غطّينا ظاهر شرفاتنا، تلك التي تحت الدرابزينات، بألواح ألمنيوم.
أي أنّنا نتناكف بصمت، أو نتحاسد بصمت، وإن كنّا لا نعرف شيئاً عنهم أو يعرفون شيئاً عنّا. ليس الآن، في هذه الأشهر الثّلاثة الأخيرة، بل قبل ذلك. لم يحدث أبداً، على سبيل المثال، أن رفع أحدٌ من هناك يده بالتّحية لأحدٍ من هنا، كما من هنا إلى هناك. وإذ أروح أستعيد الآن، ما كنت أشاهده على شرفاتهم، قبل هذه الأشهر الثّلاثة، لا أجدني متذكّرة إلّا القليل: تلك المرأة مثلاً، التي كانت تجعلني أتساءل إن كانت الأسنان لا تنظّف إلّا إن فركناها كلّ هذا الوقت، إذ هي تظلّ نصف ساعة تقلّب الفرشاة في فمها فيما الرّغوة تفيض منه وتسيل على كفّها الذي جعلته مكوّراً مثل جرن صغير.
هناك آخرون أيضاً. قليلون. رجل وامرأته كانا يحتسيان قهوتهما على شرفتهما في الطّبقة الثّالثة ثم لا يعودان إلى الظهور. خادمة أفريقيّة تخبط الغسيل في الهواء قبل أن تنشره على السّيبة الواطئة. خادمة أخرى على شرفة طبقة أخرى...
الآن لا أحد.
فقط هو. كلّما ظهر على الشّرفة، أفكّر أنّه قضى كلّ وقته في الداخل لا يفعل شيئاً إلّا التّنقّل المتوتّر. ربّما لأنّ ليس من أحدٍ هناك ليحادثه. ليس من أحد يتحرّك عنده، أو يحرّك شيئاً من مكانه. لا شيء. أعرف ذلك من تلك النّظرات السّريعة التي ينقّلها، كأنّ أذناه تُسمعانه أصواتاً ضئيلةً متواترةً تطلع من حيث لا يعرف، فيسعى إلى أن يتبيّن بعينيه أين هو مصدرها. وكان يستجيب لكلّ ذلك مسرعاً متفاجئاً. في لحظة ينتقل نظره من موقف السيّارات تحته إلى شرفة في الطّبقات العالية عندنا، أو ينحرف به بعد ذلك إلى قطعة الأرض الخالية المسوَّرة إلى الجهة الأخرى من بنايتنا.
لم أسعَ، في البداية، إلى لفْتِ انتباهه. ما كنت أريده هو أن أراه من مكان أقرب. من الشّرفة لا من الغرفة التي، إذا ما تقدّمتُ لأخطو نحوها، لا أعرف إن كنت سأُرى مِن هناك واقفةً وراء الزّجاج. خرجتُ من الباب الأخير الذي يضعني في وسط السّاتر المضلّع ورحت، مختفيةً كما ظننت، أنظر إليه. لم يرني في تلك اللّيلة، ولا في اللّيلة التي تلتها. بوقوفي هناك، وراء ذلك السّاتر، أحببت شعوري بتخفّفي من السّاعات الطّويلة التي أقضيها في الداخل، كما أحببت ذلك القدر الضئيل من المغامرة حيث يمكن له، هو الواقف هناك على تلك المسافة منّي، أن يفاجئني بوقوع نظره عليّ.
انقضت أيام قبل حصول ذلك. في أثنائها صار يخطر لي أن أندفع، وإن بما يشبه اللّعب، إلى مزيد من المجازفة. خطوة صغيرة واحدة، لا تتعدّى تعديل وقوفي، حتّى يبين منّي شيء خارج السّاتر. فقط ذلك الجانب القليل من جسمي حيث لم أزل، على رغم رغبتي بالمجازفة، حائرةً ماذا أريد: أن يراني أو أن لا يراني. لكنّه فعل. عرفت ذلك من تثبيت نظره عليّ، أو على حيث أقف، ثمّ استدار بعد ذلك ليعود مسرعاً إلى الدّاخل. وحين عاد بعد ثوانٍ، بدا تركيزه أشدّ، كأنّه ينتظر أن يرى حركةً وليس فقط شخصاً ثابتاً في مكانه.

* الفصل الأول من رواية حسن داوود «فرصة لغرامٍ أخير» (نوفل/ هاشيت أنطوان ــ 2022). يوقعها الكاتب الأربعاء 7 كانون الأول، بدءاً من السادسة حتى السابعة والنصف مساءً