نسير في شوارع متفرّقة من بيروت، فتلفتنا رسوم غرافيتي عملاقة تزيّن جدران بعض الشوارع، وأحياناً بعض الواجهات الجانبية لعدد من مبانيها. تستحقّ هذه الرسوم العملاقة وقفة تقديريّة، وإن لم تكن مرتبطة بحدث آنيّ، خصوصاً إذا كانت تطرح قضايا إنسانيّة، أو نضاليّة، وليست لغاية تزيينيّة فقط. هي «رسائل» يوجّهها المشتغلون بهذا التعبير الفنّي والجماليّ والرمزيّ الجاذب للنظر والمحرّك للوجدان والشعور، إلى عشرات ألوف العابرين. لعلّ لمحة تاريخيّة عن فنّ الغرافيتي تفيدنا في هذا السياق، فهو يعود إلى أقدم الأزمنة والحضارات القديمة (لدى قدامى المصريين والإغريق والرومان وسواهم)، تطوّر عبر الزمن بلوغاً إلى ما يسمّى اليوم بـ «الغرافيتي الحديث» وتبدّلت أدواته التي تراوح اليوم بين بخّاخات الدهان والأقلام العريضة والطبشوريّة، إلى ما عداها. نشأ فنّ الغرافيتي الحديث، أو الحداثة الغرافيتيّة، في الستينيّات من القرن الماضي في نيويورك، وقد ألهمته موسيقى الهيب هوب. يُستخدم هذا الفن في العالم كلّه لإيصال رسائل سياسية واجتماعية، أو لغايات دعائيّة، وبات من أشكال الفن الحديث ويمكن أن نرى أعمالاً منه في قاعات عرض فنّية. تعبير حر يمكننا أن نراه على الجدران العامة الملحوظة، وعلى الأبواب والباصات، ونراه منتشراً في بلدان معينة أكثر من أخرى، كما هي الحال في كوبا والولايات المتحدة والعديد من المدن الأوروبية.يرتكز فنّ الغرافيتي على فكرة الشارع والابتعاد عن الأماكن المخصّصة للأعمال الفنية. فنّ في الهواء الطلق يتّصل مباشرةً بالجمهور بلا مواعيد أو دعوات مسبقة. يأتي هو إلى الناس العابرين، «يقصدهم» ولا يقصدونه. والعديد من شوارع مدينتنا تزيّنها رسوم الغرافيتي ذات المواضيع المتنوّعة، السياسية، الاجتماعية، أو ذات الهدف الفني المحض، أي لإظهار قدرة فنّية معينة ليست بالضرورة تزيينيّة إنّما متحرّرة من هاجس «القضيّة» أو «الرسالة».
أحد أشهر الشوارع العالمية المزيّنة برسوم الغرافيتي هو في مدينة بريستول في جنوب غرب إنكلترا، وتحديداً في ضاحيتها كليفتون. هناك، نرى أعمالاً ذات شهرة عالمية، والكثير منها مستفزّ (مثل غرافيتي القبلة الفمويّة بين ترامب ورئيس الوزراء البريطاني السابق جونسون) أو ذات طابع فنّي جماليّ محض (مثل غرافيتي للوحة فيرمير المشهورة «الفتاة ذات قرط اللؤلؤ»). ومن رسّامي الغرافيتي الذائعي الشهرة، نذكر Inkie و Nick walker وCleo وCheba. أعمالهم تشيع جمالاً وفرادةً وإبهاراً، وفي بعض الأحيان ضحكة عالية أو ابتسامة عريضة لسخريتها المستفزّة واللاذعة. أمّا عندنا فلم يصل فنّ الغرافيتي إلى المراتب الإبداعية (فكرةً وتنفيذاً) التي وصل إليها في أماكن متفرّقة من العالم، كما هي الحال المميّزة جداً في ضاحية كليفتون الإنكليزية.
يتّصل مباشرةً بالجمهور بلا مواعيد أو دعوات مسبقة


الغرافيتي فنّ من الجدار إلى القلب. يخاطب العين والإحساس على نحو فوريّ، أي أنّ رسمة الغرافيتي تقفز إلى العين بلا تمهيد أو تهيئة أو استدعاء للتأمّل والتفكير. رسالتها مباشرة، واضحة، تبغي التأثير والتفاعل الفوريين. وهي تلتقي في هذا الجانب مع مسرح الشارع مثلاً، أو كل العروض الفنية التي تختار الشارع فسحة عرض لها.
للغرافيتي ميزة إضافيّة، إنّه عمل فني لا يبغي ربحاً رغم أنّه مكلف المواد والدهانات والأقلام. هو ليس عملاً معدّاً للبيع أو الشراء أو للاقتناء ضمن مجموعة خاصة. هو فنّ يُقدم مجاناً للجميع، غايته إبداعيّة، سواء لأهداف سياسيّة أو اجتماعية، أو لمجرّد المرح والسخرية أو الكاريكاتور المضخّم.
من رسوم الغرافيتي البارزة على جدران عاصمتنا، جداريّة للفنانة صباح أنجزها الفنان الشاب يزن حلواني، وغرافيتي عملاقة للفنان الفلسطيني بلال خالد في شارع الحمرا في بيروت يبلغ ارتفاعها خمسة وثلاثين متراً وتوصل رسالة حول معاناة الشعب الفلسطيني المحاصَر في قطاع غزة، وفي فلسطين عامةً.
‏في رسوم الغرافيتي فنّ وجمال ورسالة، ما يجعله جديراً بالدراسة والمتابعة، وهذا ما ينبغي فعله والتوقّف عنده لدى بروز أي عمل جديد يزيّن شوارع مدينتنا التي تحتاج إلى من ينتشلها من حزنها وفوضاها وكآبتها.