بغداد | بالطبع لا يعود سبب تميّز «شارع المتنبي» في بغداد، إلى كثرة المسؤولين والشخصيات السياسية التي تزوره وتلتقط صوراً فيه لتنشرها على صفحاتها الفايسبوكية. منذ إعادة إعماره بعد التفجير الذي طاوله في شباط (فبراير) عام 2007، بدأ مشهد جديد يأخذ مكاناً في الشارع البغدادي التاريخي؛ بدءاً بالحراك الثقافيّ التلقائي، وكثافة الحضور الاجتماعي صباح كلّ يوم جمعة، ناهيك عن الكتب التي تغطي أرصفة «المتنبي» من بدايته، حيث «شارع الرشيد» وحتّى نهايته بتمثال المتنبي ونهر دجلة.
مشهد ثقافي غني، وصل تاريخين لجيلين متباعدين، وحوّل الشارع إلى منفس حقيقي وسط عتمة فرضها جو العاصمة الكئيب الذي لا ينفكّ يكّدر مزاج البغداديّين بأخبار التفجيرات والاغتيالات. كأن «المتنبي» استعاد هويته وسمعته الحقيقيتين. بعدما كان مكاناً لاقتناء الكتب وشرائها من المكتبات وأصحاب البسطات، عاد إلى احتضان حفلات توقيع الكتب والأمسيات الغنائية والموسيقية والعروض المسرحيّة التي تقام أحياناً بشكل عفوي وتلقائي في الهواء الطلق، فيما تنظّم مؤسّسات كـ«بيت المدى»، و«المركز الثقافيّ البغداديّ»، و«بيت الشعر العراقيّ» أمسيات ومهرجانات ثابتة ودورية.


استأنفت عبّارة مرسى دجلة
نشاطها قبل أشهر

على أنغام أغنيات فيروز وسعدون جابر وياس خضر والشاب خالد، تبدأ الجولة النهرية على متن عبّارة مرسى دجلة (استأنفت نشاطها قبل أشهر) من ضفاف دجلة لجهة شارع المتنبي وتنتهي دورتها الأولى عند جسر مدينة الطب، لتعود إلى المكان نفسه. وقد كثّفت هذه الجولات الجديدة نسبة روّاد الشارع الذين باتوا ينهون يومهم بمعانقة دجلة. قبل أن تصل إلى «قيصرية البنك» في الشارع، ستمرّّ بشابّة ترسم لوحة، وعازف غيتار يتحلق حوله جمع من الروّاد. يطلق الأدباء على هذه المحطّة لقب «قيصرية الحنش» أيضاً، نسبة إلى مكتبة كريم حنش عند مدخل هذا التفرّع. لهذه المكتبة قصّة خاصّة، فالمار من هناك، يحيّي الشاعر حسين علي يونس وكتبه التي يفترش بها الرصيف ثمّ يأتي إلى «حنش» ليستمع إلى أغنيات فؤاد سالم وفاضل عواد وأم كلثوم، ولا تغيب الحوارات السياسيّة والثقافيّة والإعلامية عن المكان. هكذا، لم تعد بسطات الكتب التي تنتشر على جانبي «المتنبي»، مجرّد وسائط للترويج لكتب فحسب، بل صارت القيصرية منبراً لتوقيع إصدارات عراقيّة حديثة، أو لإعلان كتّاب مخضرمين وشباب إنتاجاتهم، ومكاناً للتعبير عن تنوّع واختلاف التوجهات التي لا تكاد تلتقي إلا هنا: من التطرّف والعقلانية، إلى الليبيرالية والإسلامية. لا تكاد تنتهي من بسطة حتى تطالعك أخرى؛ سترى بسطة «دار ميزوبوتاميا»، للباحث مازن لطيف، وهي المكان الذي انطلقت منه الدار نفسها وصدرت عنها مجلة فصليّة، وتشكّل ملتقى للكتّاب والصحافيّين. بسطة «دار الجمل» التي تأتي بإصدارات الدار الجديدة حاضرة أيضاً، وبسطة «أبو بلال» تستقطب الشباب البغدادي المتحمّس لمبادرات تطوّعية جديدة، مرّة لإحياء مبادرة «أنا عراقيّ أنا أقرأ»، وأخرى لإيجاد آليات لإغاثة النازحين في مناطق مختلفة من العراق. وما إن تشغل إحدى القضايا الرأي العام، حتّى تجد ردود الفعل الأولى في جمعة المتنبي، التي تحوّلت ميداناً للتظاهر والاحتجاج على ما يثير اعتراضات النخب الثقافيّة والأوساط الاجتماعيّة. لافتات وشباب يجوبون الشارع مع هتافاتهم، مرة ضدّ مجلس النواب وإقراره قانوناً تقاعديّاً لأعضائه يستنزف خزينة البلد، وثانية ضدّ قانون الأحوال الجعفري، وثالثة ضدّ محاولات التضييق على الفنّ والفنّانين، أو حتى للاحتجاج على نصب للجواهري في المركز الثقافيّ البغداديّ؛ كونه يفتقر إلى جماليات العمل النحتي وإلى المعايير الفنيّة اللازمة لتجسيد شاعر بهذه المكانة الكبيرة، وفعلاً أثمرت هذه التحرّكات وأزيل النصب أخيراً.
للساسة وأحوالهم نصيب في «المتنبي»، سواء للاستعراض والتلميح بأنّهم إما محبّون للثقافة وإما مهتمون بالفنون، لذا يزورون المكان محاولين تعزيز هذا الانطباع. لكن عبّارات دجلة لا تجري بما تشتهيه رياح الساسة من مرتادي شارع الثقافة العراقي. يحدث أن يزور «القشلة» مسؤول وسياسيّ عراقيّ معروف، فيجابهه الشباب بهتافات مستنكرة لزياراته، ومتهجّمة على ممارساته السياسية. وفي مرّات أخرى، يربك المسؤولون كبار الشارع بتجوالهم فيه، لجهة التشديدات الأمنية التي ترافق تحرّكاتهم، ما يشعر الزائر العادي بالضيق ويُشغل المارّة بالابتعاد من الحماية المكثفة للمسؤول. تكرّرت هذه الحادثة كثيراً خلال موسم الانتخابات البرلمانية في نيسان (أبريل) الماضي.
لكن حجم التشديدات الأمنيّة عند مداخل الشارع مبرّر ومفهوم في الوضع العراقيّ الاستثنائي الراهن، خصوصاً أن التهديدات الإرهابيّة للحياة لم تنته، وشبح التفجير السابق ما زال يرخي بظلاله على المكان، إلى جانب كثافة الناس والارتياد غير المسبوق للشارع. كلها استلزمت وجود قوّة أمنيّة كبيرة تحميه، وهو ما يتفهمه جميع الزائرين الذين يستجيبون لإجراءات التفتيش الدقيقة التي تصادفهم عند جميع المداخل المؤدية إلى أجمل الفضاءات في بغداد اليوم، ونعني هنا الشارع المكتظ بالحياة والأحلام. سيقول المتنبي من ناصية تمثاله للناس حوله وهم يظفرون بهذه المساحة المتوهجة وسط خرائب العاصمة: «أحُلْماً نَرَى أمْ زَماناً جَديداً/ أمِ الخَلْقُ في شَخصِ حيٍّ أُعيدَا».