عندما تكون السينما، نهج حياة، الملجأ والكذب والحقيقة... عندما تكون حاجة، وأكثر من مجرد حلم لشخص ما وحقّقه... في هذه الفسحة بلا شك، نجد ستيفن سبيلبيرغ وفيلمه الأخير The Fabelmans. الرجل الذي قال إنه لم يصدق الحقيقة التي تقولها عيناه، ويصدق فقط ما تقوله له الأفلام. في جديده لا يُعيد مقولته فقط، بل يرينا إياها بأعيننا، ويوضح كيف أن الصورة والسينما هما الدين الوحيد الذي يؤمن به. السؤال هنا ليس «ما هي السينما؟» ولكن أين ولماذا يتقاطع الفن (السينما في هذه الحالة) مع الحياة؟ حياة تصبح فيها الكاميرا أداة لفهمها والتعامل معها، وسيلة للسؤال والمجازفة في الجواب. إن استحضار البدايات وتطور أحد أهم المخرجين في التاريخ، في فيلم صنعه بنفسه عن نفسه، هي تجربة تصيب قلب السينما مباشرة، كما هي الحال في المشهد الأخير من الفيلم، حيث يختتم سبيلبيرغ شريطه بمزحة بصرية تؤكد أنه فهم كل شيء عن السينما، ووصية قالها له العظيم جون فورد (ديفيد لينش)، حيث كل شيء في الصورة أو الواقع يتوقف على مكان الأفق.«آل فايبلمان» (مرشّح لتسع جوائز أوسكار من بينما أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل سيناريو...) ليس أقل من ذاكرة سبيلبيرغ الشخصية. للمرة الأولى يخصص أحد أهم المخرجين في تاريخ السينما، فيلماً لرواية طفولته وسنوات المراهقة. سيرة ذاتية عن حياته الخاصة لا تشبه الوصية كثيراً بقدر ما هي نوع من البوح يعود فيه إلى المكان الذي يشعر به بالحماية والأمان: العائلة والسينما. بحنين وحبّ، يعالج علاقته مع والدته ووالده (توفي كلاهما على التوالي عامَي 2017 و2020)، ووجهة نظره النقدية حول معنى أن يكبر معهما (وربما اليوم يفهمهما بشكل أكبر). فيلم عن معضلات العائلة وأفراحها ومصاعبها، عن اكتشاف المشكلات والصدمات النفسية والأسرار من خلال التصوير، وحلّها ومعالجتها بالسينما، عن علاقة الفنان بالعائلة (من أجمل مشاهد الفيلم الحديث بين سام والعم بوريس (جود هيرش، مرشح لأفضل ممثل مساعد)، وكيف يمكن للفن وخاصة لصانع الأفلام أن يفصل نفسه عن عائلته ويصبح مراقباً لها لمحاولة فهمها. الحب هو الموضوع الرئيسي، من الأسرة إلى الرومانسية والشغف بالسينما دائماً، حيث تتنافس أنواع الحب المختلفة وتغذي بعضها البعض.


من الواضح أن سبيلبيرغ نشأ محاطاً بالحب، حتى في اللحظات الصعبة، وأيضاً حب السينما هو قوة ساحقة أصبحت أكثر بكثير من مجرد هروب من الواقع. ميشيل ويليامز وبول دانو يؤدّيان والدَي سام في أداء ينحرف قليلاً عن الواقعية ليلائم الاحتياجات الخاصة لوجهة النظر التي يتم سرد القصة من خلالها. والده المهندس ووالدته الموسيقية التي تركت حلمها لتعتني بالأسرة، لا يتحدث أي منهما لغة الآخر العاطفية والعقلية، لكنهما يبذلان قصارى جهدهما في الترجمة حتى ينتهي هذا الجهد بتوسيع الصمت بينهما. ستيفن سبيلبيرغ في الفيلم، يدعى سام فايبلمان. في المشهد الأول، بالكاد يبلغ ثماني سنوات وهو على وشك دخول السينما للمرة الأولى. أول شيء يراه سام على الشاشة (مشهد تحطّم القطار في فيلم «أعظم عرض على وجه الأرض» (1952) لسيسيل ديميل) سيترك بصمة عليه مدى الحياة. نرى سام منبهراً بالسينما بشكل متزايد. يتعلم شيئاً فشيئاً التصوير والمونتاج، وقبل أي شيء يكتشف حقيقة غير متوقعة من خلالهما هو تمزق عائلته ووقوفه دائماً إلى جانب والدته المحببة وغير المستقرة. تبدأ حياة سام، ويرويها لنا الأسطورة نفسه. وعندما يصل أخيراً إلى لوس أنجليس، يشعر أكثر من أي وقت مضى بمصيره السينمائي.
هناك جانبان رئيسيان في القصة: عائلته والسينما. على الرغم من أنّ كليهما متشابك، إلا أن هناك لحظات ينفصلان فيها ويخبران الشيء نفسه. سيجد سام قريباً أن السينما قادرة ليس فقط على تحريك مشاعرنا، ولكن أيضاً على كشف الحقائق وإخفاء العيوب وتمجيد الأكاذيب وإظهار ليس فقط من نحن، ولكن أيضاً من يمكن أن نكون. يكتشف سام، مثل سبيلبيرغ، في وقت باكر جداً أن مفتاح السينما يكمن في المونتاج. ما يبقى في الفيلم وما يُقَصّ منه. يتشابك نضج سامي الفني بشكل لا ينفصم مع تطور التكنولوجيا، وأيضاً مع تاريخ عائلته. سبيلبيرغ بإحساس كبير يوضح أن الصبي أصبح أكثر وعياً بذاته الإبداعية في اللحظات الحاسمة، وهذه اللحظات لا تنفصل عن الطريقة التي يراقب بها عائلته وتفكّكها البطيء. إذا كان الطفل الصغير يريد فقط إعادة إنشاء ما رآه في السينما بمساعدة فيلم 8 مم، فإن هذا الإنشاء يمثل بالفعل توثيقاً وإعادة تجميع واقع عائلي ينهار إلى أجزاء. والشاب الذي هو الآن في المدرسة الثانوية، يستخدم بوعي فيلم 16 مم، يخلق واقعاً جديداً تماماً. بهذه الطريقة، فإن النبض المكرر يجعل التعامل مع المونتاج يبدو بسيطاً وطبيعياً ومرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالأحاسيس، وطريقة تفسيرها وفي الوقت نفسه التعامل معها، أو إنشاء أحاسيس جديدة مغايرة عن الواقع كما فعل في فيلم رحلة المدرسة إلى الشاطئ الذي عرضه للتلاميذ. من الأفلام القصيرة التي صوّرها سام مع أخواته ثم أصدقائه فرفاقه في المدرسة، تظهر كيف أنه عرف من خلال الصورة فك شيفرة العواطف ومواجهة عالم الكبار والتصالح مع الطفل الذي كان في السابق، ومواجهة آلامه القديمة والجديدة وقلقه وأي صعوبة يواجهها في الحياة.
على الرغم من أن الفيلم شخصي للغاية، فإنه يظل بعيداً عن فخاخ الغطرسة والتمركز حول الذات


الفيلم هو بيان فخم حول التردد والتأني والتفكير الكبير في دور السينما، والتعامل معها وعلاقتها بالحياة. وعلى الرغم من أن الفيلم شخصي للغاية، فإنه يظل بعيداً عن فخاخ الغطرسة والتمركز حول الذات التي سقطت به أفلام مماثلة صدرت حديثاً. «آل فايبلمان» هو تحفة سبيلبيرغ الجديدة، مراجعة للذات مليئة بالتواضع. فيلم مختلف عن كل شيء صنعه المخرج. وعلى الرغم من أن بصمته الدقيقة للغته السينمائية واضحة ومدروسة دائماً، إلا أنّ «آل فايبلمان» يعطي شعوراً بأن المراهق والطفل داخل الرجل الذي يبلغ 76 عاماً هو من صنع الفيلم، فمن الممكن تماماً أن نشعر بشغف المخرج ينزف من كل صورة وكل إطار. يصنع ستيفن سبيلبيرغ الأفلام ويذهب إلى السينما لا للهروب من الحياة، لكن للعثور عليها، وفيلمه الجديد خير مثال على ذلك. لم يُظهر لنا نفسه على أنه العاشق للسينما الذي شاهد كل الأفلام، ولا يمكن أن يمضي يوم إلا ويشاهد فيلماً أو اثنين، بل أظهر لنا ما هو أعمق من مجرد حب، هو طريقة التفكير من خلال الصورة التي يحبّ أن يصنعها. ما قاله لنا سبيلبيرغ في الفيلم وطريقة تعامله الفكرية مع السينما التي ولدت من حب لا محدود لها، هو ليس هروباً من الحياة ولكن طريقة لممارسة عواطفنا والتعلم وإضفاء العمق إلى أيامنا. يوضح سبيلبيرغ كيف أن السينما أكثر من مجرد هواية أو حتى مهنة. إن صانع الأفلام يغير الحياة والمشاعر والمفاهيم والمسارات. يؤكد كيف أن بعض الحقائق لا يمكن أن تُرى أو يُنظر إليها إلا من خلال الضوء السينمائي. إحدى أهم اللقطات في الفيلم هي تلك التي تظهر سام الصغير وهو يعرض الصور على يده. صانع الأفلام المستقبلي، يحمل حرفياً عالماً بين يديه. سيرة سبيلبيرغ الذاتية عاطفية من دون أن تكون مبتذلة أو نوستالجيّة كما تحب هوليوود. قصة طفولته وشبابه رأيناها من خلال عيني سبيلبيرغ نفسه، أو في الواقع، ما سمح لنا برؤيته.