يخيّم على العالم العربي اليوم شبح التقسيم والتطرّف الديني واستمرار الاستبداد. يقف الفنان العربي الملتزم أمام تحديّات ومسؤوليات جديدة. وفي حال اختياره المواجهة، ليس سهلاً أن تواجه الموسيقى والكلمة الانحطاط الثقافي الضارب على مساحة العالم العربي. قبل أمسيته المنتظرة «تعويذة: جناز الطيور» (10/8_ راجع «الأخبار» مهرجانات الصيف 2014) في «مهرجانات بعلبك الدولية»، التقينا ظافر يوسف (1967)، ابن تونس، عاصمة الشرارة الأولى، في حوار عن تجربته الجديدة في إصداره الأخير والظروف المحيطة بالموسيقى العربية المعاصرة اليوم.
باستثناء اسطنبول ودمشق، لم يعد هناك مكان يستمتع فيه ظافر بصوت الأذان. يستوقفه هذا «الصوت الجميل»، فيجلس ويستمع. يستعيد لحظات من جلسات الحفظ والتجويد مع جدّه وفي المدرسة الأولى، حين كان الإنشاد اللعبة التي استمتع بها ظافر الطفل في فضاء المسجد، وفي الحمام العربي القديم وحمام المنزل. جرّب صدى صوته مع الأغاني التي كانت تخرج من الراديو في منزله، «كنت أحبّ أغنيات محمد عبد الوهاب كثيراً وما زلت، واسمهان وعبد المطلّب بالإضافة الى الموشحّات».
حملَ ابن طبلبة القرية الصغيرة التي اصبحت مدينة الآن، هذا المخزون الأصيل الغني معه، عندما غادر تونس إلى فيينا لمتابعة دروسه، فخاطبهم بالأصوات الشرقية لا باللغة العربية «حملت معي تراثي وهويتي وآلة العود». يتذكّر ظافر هذه البدايات حين «كان الصوت أقوى من الكلمة، فاللغة التي تعرفها لا تدخل اليك، بينما يفعل ذلك الصوت بسهولة».

باستثناء اسطنبول ودمشق، لم يعد هناك مكان يستمتع فيه بصوت الأذان

مبررات الزمن الصعب غائبة عن قاموس ظافر يوسف، فـ «على الفنان أن لا يخاف وأن يصبر، ولكلّ جيل وزمن مشاكله وعثراته». يعتقد بأنّ المجتمع لا يزال منغلقاً على الفنون والظروف صعبة، ناهيك عن غياب الدعم والإنتاج للأعمال الفنية الجديّة، ليضاف إلى ذلك اليوم التطرّف والمشاكل السياسية والاجتماعية الأخرى، قبل أن يضيف: «في المقابل، لدى موسيقيي اليوم فرصة لم نكن نحلم بها هي الإنترنت واليوتيوب. وسائل تسنح لك رؤية وسماع من تحبه ولا تحبه والمقارنة بينهما». يتوقف ظافر عند مشقّات رحلته الموسيقية الطويلة: «كنت أعرف ماذا أريد وعملت جاهداً كي أصل من دون أن أحيد عن الهدف أي أن أصبح موسيقياً». يرى بأنّ هناك العديد من التجارب الجميلة في تونس اليوم، لكن معظمها يحمل تأثيراً غربياً، فلا تشبه منبتها، ولا تعكس ثقافة بلد عربي أو أفريقي شمالي. لكن المشكلة لا تكمن هنا بالنسبة إليه، بل في أنّ أصحاب هذه التجارب يختارون ثقافات أخرى بعيدة من دون التمكن من ثقافتهم الأصلية، «أنا انطلقت من الجذور، من الموسيقى العربية الشرقية ولكن أردت أن أتشرب من كل الثقافات والحضارات... أنا كالإسفنجة، أمتص من جميع الحضارات والثقافات، وعندما تعصرني، يخرج كل ما شربته منذ بدايتي مع الموسيقى، دفعة واحدة».
منذ عشر سنوات تقريباً، قرر ظافر العودة أكثر إلى جذوره الشرقية من خلال الموسيقى والكلام مع استعادته لأبيات الحلّاج وأبو نواس، «شعرت أن كلماتهما تخاطبني. لم أجد بين الكتاب العرب المحليين رغم كثرتهم وجودتهم مَن يعبّر عني من خلال كلماته». يفضّل عازف العود التونسي البحث عن الكلام الذي يستطيع من خلاله النقد أو التوعية، وقد رأى في جرأة هذين الشاعرين وغيرهما بالنسبة إلى عصرهما ومجتمعهما، منفذاً لإيصال رسائله عن الحاضر. عرضّته بعض أبيات الحلّاج وأبو نوّاس للنقد والاعتراض والاتهام بالكفر، لكنه لم يتوقف عند هذا، معتبراً أنّ لا جدوى من إضاعة الوقت مع الجهل ذاته الذي شكّك بإيمان الحلاج حينها وقتله، قبل أن يضحك مستطرداً: «لا يمكن لأحد أن يشكك في إيمان الحلاج، أنا أحياناً أتضايق من شدّة ايمانه».
في 2012، اعترض العديد على مشاركته في «مهرجان قرطاج» في ظل حكم «حزب النهضة»، لكنه أصرّ واعتبر المشاركة رسالة وفرصة لإبداء الموقف والنقد من زاوية اجتماعية، فهو لا يحب استعمال القاموس السياسي. على كلٍّ، كانت حفلة قرطاج أيضاً فرصة للقاء آخر أراده ظافر يوسف مع العازفين الأتراك حسنو سنلنديريتشي (كلارينيت) وعازف القانون ايتاك دوغان مع آخرين عزف معهم في «مهرجان برلين»، وشعر بأنه يمكنه تطوير العديد من العناصر معهم إلى أن قرر توثيق العمل ليخرج عمله الأخير «تعويذة: جنّاز الطيور» العام الماضي (راجع الكادر).
ككل تجاربه، يعتمد ظافر على الحوار والارتجال الذي يعتبره أساساً في موسيقاه «لهذا انا أعشق الجاز، فكل تجاربي الموسيقية تنطلق من المساحات الارتجالية». صادف ظافر أكثر من عامل نفسي خلال تسجيل الألبوم منها خسارة شخص عزيز عليه. وقد أدى هذا العامل النفسي الى إحساس جديد مع الموسيقى، فاختار للعمل عنوان «جنّاز الطيور». أما الطيور هنا، فهي السنونو التي تبشّر بالربيع. وإن كان العنوان يبدو سوداوياً، إلا أن ظافر شعر في انسجام الصوت وآلة الكلارينيت تحرّراً لتلك الطيور «تخيلتها تسافر بانسياب، خفيفة وحرّة».

* «تعويذة: جناز الطيور»: مساء الأحد 10 آب (أغسطس) _ «مهرجانات بعلبك الدولية»



جنّاز الطيور

ليس سهلاً استدراج الموسيقى الصوفية لملاقاة الأصوات الإلكترونية، ودمجها في إيقاعاتها. لذا يعتبر نجاح ظافر يوسف في هذا المجال استثنائياً. إلا أنّ ألبومه Birds Requiem يزيد ابتعاده من المؤثرات الإلكترونية. هو تجربة جديدة ومختلفة عن سابقاتها. هذا ما تفرضه الآلات الشرقية كالكلارينيت والقانون التي تحتل مساحة أوسع في الألبوم، الى جانب صوت ظافر. يتضمن الألبوم 11 مقطوعة من تأليف وتوزيع ظافر الذي يشارك أيضاً إنشاداً وعزفاً على العود مع نيلز بيتر مولفاير (ترومبيت) وكريستيان راندالو (بيانو) وحسنو سنلنديريتشي (كلارينيت) وايتاغ دوغان (قانون) وإيفيند آرست (الكتريك غيتار، وأصوات الكترونية) وفيل دونكين (دوبل باص) وشاندر ساردجو (درامز).