تونس | في عام ٢٠١٣، قدم توفيق الجبالي (1944) عمله المسرحي الجديد «كلام الليل، صفر فاصل» الذي شاهدناه مجدداً هذه السنة في عرض يتيم ضمن «مهرجان الحمامات الدولي». أعاد الجبالي الروح والحياة إلى سلسلة «كلام الليل» الشهيرة التي قدمها في فضاء الـ «تياترو» أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. يومها، شاهدنا المسرحية في عشرة أجزاء قبل أن تتوقف بعد التضييقات التي كان نظام زين العابدين بن علي يمارسها على هذا اللون المسرحي، ما اضطر توفيق الجبالي ورفاقه رؤوف بن عمر والمرحوم محمود الارناؤوط وكمال التواتي الى الصمت.
الحلقة الجديدة من «كلام الليل» التي افتتحت «مهرجان الحمامات الدولي» قبل أسبوع، حافظت على السينوغرافيا والجغرافيا والسخرية المرَّة والكوميديا السوداء عينها التي أجاد الثلاثي توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر ونوفل عزارة تقديمها. جاءت المسرحية كمرثية لوهم كبير عاشه التونسيون اسمه الثورة قبل أن يستيقظوا ليكتشفوا أنّ كل ما عاشوه ليس الا كابوساً حوّل حياتهم الى دمار وبلادهم الى جحيم وخراب تتحرش به «داعش» ومشتقاتها!

شعرية عالية في جملته المسرحية التي تفوّق فيها على كل أبناء جيله

من العنوان، بدت الخلفية السياسية لهذه المسرحية واضحة، فـ«الصفر فاصل» مصطلح أطلقته حركة «النهضة» على الاحزاب والتيارات اليسارية التي قادت الانتفاضة الشعبية ضد نظام بن علي، لكنها لم تجنِ شيئاً في انتخابات ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١ الا «الصفر فاصل». فازت «النهضة» وحليفاها «المؤتمر من أجل الجمهورية» و«التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات» بغالبية المقاعد، لتبدأ في تنفيذ مشروع أخونة تونس وتدمير مكتسبات الاستقلال. هذا الأمر دفع الفنانين من بينهم مجموعة الـ «تياترو» التي يقودها توفيق الجبالي الى إطلاق صرخة من أجل إنقاذ البلاد التي غرقت في كابوس الاسلاميين. هذه المسرحية التي عاد فيها الجبالي الى «كلام الليل» بعد حوالى عشرين عاماً قدم خلالها أعمالاً أخرى لم تحرز النجاح نفسه، هي تشريح لما حدث في تونس وتداعيات ما عرف بـ «الثورة».
تنطق المسرحية بمشهد عروسين يحملان شهيداً ولا يدريان ماذا يفعلان به وهما في ملابس الزفاف البيضاء: هل يدفنانه؟ كيف يكون الدفن؟ أين سيحتفظان به؟ إنّها الحيرة نفسها التي غرق فيها الشارع التونسي وهو يتابع خبر مغادرة الرئيس بن علي البلاد بعد ٢٣ عاماً من حكم العصا الغليظة ومصادرة الحريات وفساد أصهاره وأقاربه. ثلاث جثث تعود اليها الحياة بعدما تخلت عن ملامحها، إذ ارتدت أقنعة يجسدها كل من توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر ونوفل عزارة. تبدأ هذه الأجساد المنزوعة الهوية في اكتشاف نفسها ومحاولة استرداد هويتها الضائعة بلا جدوى، فالقمع والديكتاتورية محيا كل خصوصية لها، ولم يتركا لها شيئاً يميزها!
أحداث المسرحية تدور في مشرحة طبية في إحالة واضحة على الأمراض النفسية والإحباط الذي أصاب التونسيين بعد «ثورة ١٤ جانفي»، فالانفجار الذي شهدته تونس لا يمكن فهمه الا في مشرحة الطب النفسي. بعد سنوات من الصمت واللامبالاة، تحوّل التونسيون جميعهم الى ثوريين، وضاعت البوصلة التي جسدها مشهد وضع الشهيد في مكان يليق به. لكن العروس تحتجّ في كل مرة على عريسها بأنّ هذا الوضع لا يليق بالشهيد!
إنّها الحيرة ذاتها التي يعيشها التونسيون في تحليلهم واستحضارهم لما حدث. لا أحد كان يتصوّر أنّ بن علي سيغادر البلاد بتلك الطريقة، لكن فرحة التونسيين بالحرية تحوّلت كابوساً. أصبح الموت والاغتيال والتفجيرات والمجموعات الإرهابية ومخططات الاغتيال من مفردات قاموسهم اليومي. في مسرحية «كلام الليل، صفر فاصل»، يطرح الجبالي مجموعة من الاسئلة المرَّة حول مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق. مجموعة من الموتى من المحتفظ بهم في بيت الموتى في أحد المستشفيات التونسية، تحاول فهم ما حدث في تونس وما عرف بالثورة وكل ما سبقها وما لحقها من عنف واغتيالات ومجموعات ارهابية وتدمير للدولة واستهداف للحريات وانتهاك لحقوق المرأة وكل تفاصيل المشروع الوهابي الذي خطط لتونس.
مسرحية موجعة جمع فيها الجبالي بين حسه الفني والجمالي في الإضاءة والسينوغرافيا وتقطيع المشهد المسرحي، وبين الشعرية العالية في جملته المسرحية التي تفوّق فيها على كل أبناء جيله، هو الذي كتب حوارات أكثر من فيلم تونسي وبين رؤيته السياسية لما حدث كفنان لم يصمت في زمن بن علي، ولم يصمت بعد ما سمي «ثورة». تدين هذه المسرحية كل ما حدث باعتباره تحايلاً على أوهام البسطاء الذين حلموا فعلاً بالثورة وصدقوها ليكتشفوا حجم الخراب الذي انتهت اليه بلادهم.