كثيرون لا يعرفون الدراما العراقية التي كانت، يوماً، رائدة في هذه الصناعة، خصوصاً مع «عالم الست وهيبة» (1998 إخراج فاروق القيسي، وبطولة فوزية عارف، عبدالستار البصري، أمل طه، وغالب جواد)، و«ذئاب الليل» (1990 إخراج حسن حسني، بطولة جواد الشكرجي، سامي قفطان، جلال كامل)، ومحاولات جادّة في العقود التي تلت مع مسلسلات من نوع «الحب والسلام» (إنتاج سوري عراقي مشترك ـ 2009 إخراج تامر إسحاق وبطولة إياد راضي، ضحى الدبس، عبير شمس الدين، جرجس جبارة ومحمد خير جراح) و«قصة حي بغدادي» (2012 إخراج فارس طعمة، وبطولة وسام عبدالواحد، آسيا كمال، كريم وسعد محسن). إلا أن هذا كله لم يضع الدراما العراقية في موقع المنافسة شأنها شأن الدراما السورية أو المصرية، إذ إنها مقلّة في أعمالها. هذا العام، ينافس مسلسلان جدّيان هما «اقتحام» (كتابة وإخراج مهند أبو خميرة، وبطولة زهراء بن ميم، تيسير أحمد، دزدمونة، مصطفى الربيعي، ريكاردوس يوسف)، و«بغداد جديدة» (كتابة مصطفى كاظم، وإخراج مهند حيال وبطولة باسم قهّار، مازن مصطفى، رنا جعفر، طه علوان، أمير إحسان).
من مسلسل «بغداد الجديدة»

يروي «اقتحام» (إنتاج قناة «الشرقية») حكاية زهراء (زهراء بن ميم) التي تكتشف بأن طفلتها زينب مصابة بضمور العضلات الشركي الذي لا شفاء منه إلا بعملية تكلّف ملايين الدولارات. هنا تتعقّد الأمور، خصوصاً مع محاولات إيجاد طريقة للحصول على المال من أقاربها وعائلتها، وحتى من الوزارات المختصّة، حيث تُفاجأ بأنّ المسؤول (رياض شهيد) فيها مرتشٍ وفاسد ويحاول التحرّش بها. تحاول عرض قضيتها ضمن فيديو «لايف» على وسائل التواصل الاجتماعي لتُفاجأ بالهجوم عليها من قبل الجمهور واتّهامها بالكذب والمتاجرة بابنتها. لاحقاً يعرض عليها والدها (ريكاردوس يوسف) سرقة البنك المركزي بحجّة أن المسؤولين يسرقون أموال الشعب بدون أن يحاسبهم أحد. توافق على مضض وتمضي في الخطّة التي من شأنها أن تعقّد الأمور أكثر. في قصة موازية، نجد الضابط الشاب (مصطفى الربيعي) الذي يحاول محاربة الفساد لكنه يفاجأ بالحجم والقوة الهائلة لهذا الفساد الذي يضرب العراق بقوة. يحسب للمسلسل أنه مشغول بلغة سريعة وسلسة وبكاميرا جيدة مع أداء متماسك للممثلة التونسية العراقية زهراء بن ميم، فيما برز ريكاردوس يوسف في دور الوالد الذي يبدو ضعيفاً لكنه يخفي أسراراً كثيرة في جعبته. يذكر أن المسلسل شاركت في كتابته ورشة كتابة إبداعية من إدارة رحيم عبدو. من جهته، يروي «بغداد الجديدة» (إنتاج قناة «الشرقية») المأخوذ عن قصّة «الكونت دي مونت كريستو» الشهيرة لألكسندر دوما وأوغست مكايه، حكاية الصحافي الخلوق وصاحب المبادئ حسن (باسم قهّار) الذي يقع ضحية مؤامرة لا يُعرف مَن دبّرها له واتهمه بتجارة المخدّرات. يدخل حسن السجن، فيما يتزوّج صديقه الأقرب ناصر (شوان عطّوف)، من زوجته هديل (رنا جعفر ياسين). يخرج حسن بعد سنوات ليفاجأ باعتقاد طلبته في كلية الإعلام الذين كانوا يعملون معه بأنه مزيف ومجرم. إحدى طالباته ندى تعمل كمذيعة لأحد البرامج المهمّة في إحدى القنوات الحزبية والفاسدة، فيحاول ثنيها عما تفعله، إلا أنّها لا ترتدع. لاحقاً ينقذ أحد طلابه طيف (خالد عمران) من القتل وتبدأ القصّة في اتخاذ أبعاد أعمق، خصوصاً مع علمه بزواج صديقه الأقرب من زوجته السابقة، التي تعترف علانية بأنها تزوجت من ناصر تحت التهديد. ميزة المسلسل أنه يضم الممثل والمخرج العراقي باسم قهّار، الذي يمتلك خبرة واسعة. الأمر نفسه بالنسبة إلى الممثل الكردي-العراقي شوان عطّوف الماهر الذي يمتلك تاريخاً كبيراً كممثل ومخرج. هذا الأداء المميز من قهّار وعطّوف أظهر ضعف بعض الممثلين العراقيين، خصوصاً الشباب، المشاركين في المسلسل. في الإجمال، قدّم العمل قصّة سريعة، محبوكة، حتى إن مشهد البداية هو إحدى أفضل بدايات مسلسل في رمضان حتى اللحظة: طيف (خالد عمران) يمسك بمسدس ويهدد بالانتحار أمام المتابعين على شاشة هاتفه الذي يصوّر وينقل مباشرة ما يحدث. نكتشف لاحقاً بأن هذا كله مدبّر لحصد اللايكات وتحقيق سبقٍ صحافي. حاول المخرج مهند حيّال مع الكاتب مصطفى كاظم أن يقدما صورةً واقعية للعراق الحديث مع كل ما فيه من سلبياتٍ وإيجابيات، مع الفساد الذي ينخر عظم هذا المجتمع. نقطة أخرى تُحسب للمسلسل أنّ شخصياته مسبوكة بعيدة عن التسطيح، فضلاً عن صراع الخير والشر بداخلها، فلا وجود للخير بالمطلق أو الشر بالمطلق.
يقدّم العملان صورة عميقة عن المشكلات والقضايا الراهنة


يقدّم المسلسلان صورة للمجتمع العراقي، كما لبغداد والمدن الأخرى، إذ لم يعرف المشاهد العربي المدن والعاصمة العراقية إلا من خلال نشرات الأخبار، وعناوين الصحف، والدمار والتفجيرات. يعطي المسلسلان المجتمع العراقي بارقة أمل، إذ إنهما يدخلان المشاهد في حارات العراق وأحيائه، على الرغم من كون المسلسلين بوليسيين ومليئين بالأكشن. في الإطار نفسه، يقدّم كلا العملين صورةً عميقةً للعراق، قلما نراها في عملٍ درامي بهذا الوضوح: مثلاً نجد تجار السلاح يبيعون البنادق الأوتوماتيكية (كالكلاشينكوف وسواه) في الطريق ولأيٍ كان. هذا المشهد ظهر في الحلقة الثالثة من «اقتحام» حين يسعى والد البطلة إلى شراء سلاح بغرض سرقة البنك المركزي. على الموجة نفسها، نجد العنف الكبير في المجتمع العراقي والغياب التام لمظاهر الدولة؛ حين يغضب بطل المسلسل حسن، فينزل ويكسر سيارة أحد الأشخاص، لنفاجأ بعودة ذات الشخص مع عدد كبير من البلطجية الذين يضربون حسن ويكسرون شقته، وسط غياب تام للشرطة أو أي قوة أمنية.
باختصار، كلا المسلسلين يدخلان السباق الرمضاني بقوّة، ويستحقان هذا بالتأكيد كونهما يمتلكان ما يمكن اعتباره دراما عراقية جديدة، يمكن المراكمة عليها، كي يعود العراق مشاهَداً وبقوة.

* مسلسل «بغداد الجديدة» على قناة «الشرقية» ومنصة 1001
* مسلسل «اقتحام» على قناة الشرقية ومنصة 1001