لا تزال فنون الزمن الغابر دون سواها هي ما يستهوي المخيلة الغربية، وإذا كان الميل الاستشراقي إلى الخط العربي والصناعات الحرفية يعتبر أمراً طبيعياً في متاحف أوروبية عدة خصّصت جناحاً للحضارة والفنون الإسلامية، إلا أنّه يصبح تجريبياً وملفتاً عندما يُطعّم بشيء من الحداثة.
وهي مغامرة يخوضها «المتحف الجديد للفن المعاصر» في نيويورك عبر تخصيص مساحة مهمة لحوالى 45 فناناً عربياً من 15 دولة تحت عنوان غوداري غير متوقع هو «هنا وهناك». التباين بين أجواء وخامات هذه التجارب لا يعيق تقاربها في طرح أفكار تنطلق ما يمكن اعتباره مكاشفات وتوثيقات للكثير من المخاوف والشكوك في الراهن والسياسة والتاريخ بمنظوره العام.
عند الحديث عن الفنون المعاصرة، لن نكون أمام حراك جماعي أو مناخ متكامل، بل أمام حالات وعلامات فارقة. تمهيد كهذا يبدو ضرورياً قبل الحديث عن فكرة وجود أعمال متشعّبة الأوجه والتحوّلات في معرض «محلّي»، خصوصاً مع تنامي الرغبة الأجنبية الإكزوتيكية في «الانفتاح» على الفن العربي، ما يُنذر باختزاله في شكليات فولكلورية زائفة. لم يغب هذا الأمر عن بال المدير المساعد للمعرض ماسيميليانو جيوني الذي يقول في تقديم المعرض: «الفكرة الخيالية لهوية واحدة للعالم العربي أو العوالم العربية، هي فكرة استعمارية. في الكثير من الحالات، الغرب هو الذي فرضها». ويؤكد أنّ المعرض يبرز الأعمال في فضاء أكثر قدرة على هدم الصورة النمطية للأشياء. الهدم لا يأخذ بعداً بصرياً فحسب، بل يمتد إلى محاولة خلق مساحات جديدة في آليات التفكير. ولأن إعادة النظر في الخطاب الإعلامي المسيطر، إشكالية يقاربها الفنانون المشاركون، استلهم العنوان «هنا وهناك» من فيلم لجان لوك غودار (راجع الكادر).
لا تغادر الفنانة والمخرجة اللبنانية لميا جريج مساحتها المفضّلة. الحرب في معظم أعمالها تبدو مثل ظل شفّاف، طريقة من طرق الاستذكار. يتم توظيفها كمحفز سردي يقود إلى أمكنة أخرى تماماً. توثق جريج شهادات أناس كصرخة في وجه سنوات طويلة من العنف الذي عاشته بيروت إبان الحرب الأهلية وتسألهم أن يختاروا شيئاً يرتبط في ذاكرتهم بتلك الفترة، كدب قطني، وكمان مهشم، حقيبة... تصفف هذه الأشياء أمام شاشة الفيديو لتسطو على تفاصيل الصورة وتحيلها على حالة من الوهم، أو ربما عدم التصديق. من ضمن الذين أدلوا بشهاداتهم الفنانة والشاعرة إيتل عدنان وقد اختارت رواية منعتها الرقابة. الكاتبة التي تخطو نحو التسعين، وجه مضيء وملهم في تعقبها لجملة من القضايا الشائكة والمصيرية في العالم العربي، تشارك بمشروع جاء على شكل ثلاث لوحات تجريدية. بين الاسترخاء واليقظة الكاملة، البحر الأبيض المتوسط حاضر وفق ترميزات شكلانية، متروك بعهدة الأزرق والذهبي كنموذج لامتثالها للطبيعة وحركة الزمن. التجريد المتقشف هو المقابل اللوني لأشعار عدنان التي تحتفظ بتأملات مماثلة، لكنها أكثر صخباً وتحفيزاً من الرسم. نرى قصيدة من ديوانها «نهاية العالم العربي» مختومة برسوم توضيحية. ونقرأ عبارات واستعارات مكتوبة بخط اليد مثل: «العرب فلكيون يتبعون النجوم الخطأ» و«الفلسطينيون مرميون في مركبة فضائية تتجه نحو القمر».
من جهته، لم يستطع الفنان الفلسطيني خالد جرار ركوب مكوك لحضور الطاولات المستديرة التي تنعقد في ردهات المَتحَف بالتزامن مع العرض وتتخلّلها مداخلات تَحليلية ونقدية. أوقفته القوات الإسرائيلية عشر ساعات ومنعته من عبور الضفة الغربية إلى الأردن. ثمة حالة كابوسية تؤرق جرار وتدفعه إلى أن يكون مباشراً وواضحاً في قراءته للعلاقة الاستلابية بين بلاده والاحتلال، يمكن التقاطها في عمل الفيديو الذي يشدّد على وجوه وملامح شباب يحاولون تسلّق جدار الفصل العنصري لرؤية طبيب أو الالتحاق بالجامعة أو زيارة الأهل. من الفضاء المشحون نفسه، تنطلق تجربة وفاء حوراني لتحوّل تفاصيل الحياة اليومية البائسة في المخيمات إلى مادة فنية مليئة بالأسئلة الشائكة والجمال المؤلم بالإعتماد على أدوات وتكوينات نحتية وتركيبية. في عملها « قلنديا 2087»، تشتغل على نموذج طوباوي للمخيم، وتبني جدار الفصل من الزجاج العاكس. «نظافة» المواد المستخدمة لم تتفوق على الطاقة الرمزية الهائلة التي يبثها العمل باتجاه المتفرج الذي يشاهد نفسه متشظياً للآلاف المرات بين قطع المرايا الصغيرة ولا يبحث عن مخرج للهروب.
يتزامن معرض «هنا وهناك» مع احتجاجات تشهدها نيويورك ضدّ انتهاكات يتعرض لها عمّال المؤسسات الثقافية والمتاحف. وفيما تعطي أبوظبي الضوء الأخضر للمضي قدماً في مشاريع المتاحف الضخمة مثل اللوفر وغوغنهايم على شواطئ الإمارة، يكدح ما لا يقل عن نصف مليون عامل مهاجر في قطاع البناء والعمران في البلد. خلف هذا البريق والنعيم، تطل صورة غير جذابة ترسم معالمها المحن والتجارب التي يقاسيها هؤلاء العمال من الاستغلال والتحكم في الأجور والمديونية لأصحاب مكاتب التوظيف والعمل في ظروف محفوفة بالمخاطر. وقد اختار الفنان السعودي أحمد ماطر أن يسلط الضوء على عمال بلدان جنوب آسيا، وهم يشيدون الأبنية المرتفعة. صورة أحدهم وهو يتشبث برافعة عملاقة ليثبت هلالاً على برج يطاول السماء في مكة لن تبرحنا بسهولة.

في عملها « قلنديا 2087»، تشتغل وفاء حوراني على نموذج طوباوي للمخيم

في إطار الهجرة أيضاً، يمكن وضع «رحلة رسم الخرائط» للفنانة المغربية بشرى خليلي. تعرض تجهيزاً يجمع ثمانية أعمال فيديو وسلسلة طباعة حريرية، يقترح رسم خريطة بديلة لمنطقة البحر الأبيض المتوسط بالاعتماد على رحلات الهجرة السرّية. لا مكان للعاطفة والانطباعات في مفردات هذا العمل المستوحى ممّا يسميه الفيلسوف ميشال فوكو في كتابه «حيوات الرجال سيئي السمعة» بـ«أنثولوجيا الوجود». توجه خليلي عدستها مباشرة إلى أيدي المهاجرين وهم يرسمون على الخريطة الطرق المتفردة التي سلكوها. يكشف لنا السطح عن جغرافيا سفلية متوترة، ويحيلنا على قصة ما تترك لها الفنانة نوافذ لتُطل منها.
وضمن 11 مشاركا لبنانياً، يبرز فيلم مروة أرسانيوس «متى قتلتِ الدبّ/ متى صرت جميلة» الذي يتناول شخصية المناضلة الجزائرية الثورية جميلة بوحيرد، من خلال مجلة «الهلال» المصرية. يسعى العمل إلى النظر في تاريخ المشاريع الاشتراكية في مصر، وحروب مكافحة الاستعمار في الجزائر، والطريقة التي قامت عبرها بترويج المشاريع النسوية وتهميشها في آن واحد.
ويتطرق إلى التفريق الواضح بين الجنسين الذي كان ينحّي النساء عن المجال العام، وكيف تم التغلب عليه لفترة وجيزة خلال حرب الاستقلال الجزائرية التي كانت أيقونتها جميلة بوحيرد.
نحن إزاء مناخ اختباري يحمل تواقيع فنانين غير معنيين بخلق قطيعة مع الواقع، لكنهم يحاولون بلا كلل تأطيره وإبطاءه. تركوا عموميات الحالة التاريخية والحجم غير المحدود من الصور التي تبثها وكالات الأنباء العالمية كل يوم، للولوج إلى جزئيات منسية من المشهد العربي والخوض في مكوّنات الفرد ومآزقه اليومية بشغف وانفعال.

* «هنا وهناك»: حتى 28 أيلول (سبتمبر) ـــ «المتحف الجديد للفن المعاصر»، نيويورك ــ http://www.newmuseum.org



حتى النصر

صوّر جان لوك غودار فيلمه «هنا وهناك» بدايةً عام 1970 في الأردن، وكان اسمه «حتى النصر». وهو فيلم يستعرض بدايات الثورة الفلسطينية، ونشأة الكفاح المسلح وظواهر العمل السياسي. وقد شاء المخرج السويسري الفرنسي العودة إليه عام 1974 برفقة آن ماري ميفيل في محاولة لرسم صورة لتأثير وسائل الإعلام على المواقف والسلوك من خلال أسرة فرنسية عادية تجلس «هنا» قبالة جهاز التلفزيون متفرجةً على مشاهد من «ثورة حتى النصر»، حيث الفلسطينيون «هناك» يناضلون من أجل التحرير.