صفّقتُ كثيراً، وأنا أرى، بعيني الاثنتين اللتين عركتهما مرّات، بوابةَ التحريرِ الأولى في "الغندورية" تتكسّر، وبوّابة التحرير الثانية في مجدل سلم وغيرهما من البوابات الأخرى تندحر، بقوّة زنود المشتاقين إلى الأرض والديار، إلى التين والزيتون وبيادر الضيعة وحاراتها القديمة. وأنزلوا العلَمَ الذي كان مرفوعاً عليها فتمزّق وداسته الأقدام. قال محمد وأضاف:نعم، منذ ثلاثة ايام، عيوننا مشدودة إلى تلك الشاشات التي شرعت تنقل أخبار انسحاب جيش الاحتلال الذي لا يقهر من أرضنا التي كابدت طويلاً، وشربت دماءً وعرقاً ودموعاً كثيرة من أجل قطف زهرة هذه اللحظات الناصعة البهاء من عمر الزمن .
مشاهد الهروب تبثّ السعادة في كياني المتلهّف والمشتاق إلى لحظة فرح واحدة في هذا الوطن الذي انتزعتنا فيه من أرضنا وديارنا هذه المخلوقات الهمجيّة القادمة من شتات، وتفيض على روحي بهجة شبيهة نهر نقيّ الماء والطهر .
"أيّ حلم صعب المنال هذا الذي يتحقّق الآن في هذا الزمن المستحيل؟" (همست). فركت كفيّ من فرح وردّدت، بصوت مسموع :
- إلى الضيعة يا أبي .
- أبشر، فأنا بدأت بتوضيب الأغراض اللازمة. (قال أبي، والفرحة تكاد تطير من حدقتيه تلك اللحظة المشتهاة منذ زمن .
يا الله! من يصدّق أننا نعود إلى ديارنا التي غادرناها على عجل بعد ذلك الانفجار الكبير الذي اهتزت لوقعه أرض البيت، نعود إلى كرم الزيتون، بل إلى تلك الزيتونة بالذات، زيتونة "موسى" نعم، موسى الذي رفض دعوات والده المغترب المتكرّرة للالتحاق به، وتمسك بذرّات هذا التراب، ناذراً نفسه للدفاع عنها."همست".
الآن، أسمع صوت أمّي يدعونا إلى الإسراع في المغادرة إلى ضيعتنا، فأحسّ فرحتها تسري في أرواحنا، فتشعل فيها ذلك الشوق المكبوت، فنصيح بصوت واحد: عالضيعه. عالضيعه.
في السيارة، وفي المقعد الخلفيّ جلست. قلبي يخفق، تعزف دقّاته عزفاً متواصلاً، وذهني أخذ يستعيد صورة "زيتونة موسى" التي مزّق أغصانها ذلك الانفجار، وأحالها سوداء تلوّح في الهواء مثل مناديل الثكالى، ومشهد "بنطلونه" الذي غطى الأغصان، فتدلَّت ساقاه صوب الأرض، والدم النازف منه يلوّن منديلاً فرشته أمّه التي راحت تلملم ، مع نساء الضيعة وعجائزها، لحم جسده عن الأعشاب والحجارة الساخنة، والأغصان المؤتزرة السواد لباساً بعد اشتعال كبير، والمنحنية تحيّي بحزن روحه التي فاضت قبل قليل، بفعل ذلك الانفجار الذي حدث قبل طلوع الضوء، فقذفَنا صوتُه الهائل من أسرَّتنا، فاستفقت وأخوتي مرعوبين، تطفح أرواحنا خوفاً، فأسرع أبي يهدّئ روعنا، وأمّي مسحت جباهنا بكفّيها وهي تردّد: باسم الله الرحمن الرحيم، يا لطيف ألطف .
بعد وقت قصير ركبت مع أبي وأمّي وأخوتي السيارة مسرعين في مغادرة البيت قبيل وصول الجنود الذين يحضرون مسرعين لتفتيش البيوت القريبة من موقع أيّ انفجار. هذا أمر بتنا نعرفه جيّداً. هم، دائماً، يحاصرون البيت، ثم يخلعون الأبواب، ويدخلون شاهرين بنادقهم في وجه اي فرد يتحرّك، ثمّ يسارعون، حرابهم تنحر أجساد الفرش واللحف والسجادات، وبعد ذلك يقومون بخلط الأرز مع العدس والبرغل والزيت. باختصار، إنّها حفلة إتلاف كلّ ما تقع عليه أبصارهم. هذا، فضلاً عن سيل الشتائم التي يكيلونها لأفراد الأسرة، وهم يبحثون عن المخرّبين (المقاومين).
قرب الزيتونة توقّفنا، نزلنا، وأخذت أعدو .
لم أكن الصبيَّ الوحيد الذي يركض صوب كرم الزيتون القريب، بعد حوالى الساعتين من إطلاق الرصاص الذي أعقب الانفجار. وصلت، فهالني المشهد المؤلم. البنطلون المعلّق وسط أغصان الزيتونة، والحاجة امّ موسى والمنديل.
هذه الصور لا تفارقني مذ كنت في العاشرة من عمري، وكثيراً ما سألت النساء القادمات من ضيعتنا عن الحاجة أمّ موسى والمنديل والبنطلون، فيتنهدن :
"يا حسرتي عليه، ظلّ بنطلونه موجوداً على الشجرة أياماً، وبعد ذلك لا نعرف من أخذه، لا نعرف.
- أتعرف يا أبي من أنزل بنطلون موسى عن الزيتونة؟
- يا حزني ويا حسرتي، ويا حرقة قلبي عليه، عرفناه من بنطلونه.
نعم بقي فترة وبعدها (قالت امّي وصمتت).
"ربّما كستِ الزيتونة عريها عن عيون الأعداء؟ ربّما" همست .
- ما الذي جرى بعد؟
- لا أعرف يا حبيبي، لا أعرف (أجاب أبي) الذي لفت نظره وجود دبابة متروكة، فتابع:
- انظروا إلى هذه الدبابة المشلوحة إلى جنب الطريق. ميركافا قال. صارت خردة، بل انظروا إلى العَلَمِ المنكّسِ عليها. عَلَم الكيان العبري. (قال أبي ساخراً من هؤلاء الذين يعدّون هذه الدبابة فخر صناعتهم).
الطريق المؤدي إلى "الخيام" تشهد عجقة سير كبيرة، أصوات الزمامير المنبعثة من السيارات، مترافقة مع الأيدي الملوّحة بالأعلام، مع الزغاريد المتواصلة من حناجر الأمهات والصبايا، تضفي إلى احتفال النصر بهجة إلى بهجة.
- ما رأيكم في مواكبة هذه الفرحة الزاحفة إلى معتقل الخيام؟ قال ابي .
- الآن، بعد هذا الوقت الطويل الذي قضيناه على الطريق أرى أننا في حاجة إلى الراحة (قالت أمّي)
للحقيقة، كان بي رغبة في الذهاب إلى الخيام، لكنّ رغبتي في الوصول إلى البلدة، إلى كرم الزيتون كانت تدفع بي إلى دعم رأي أمّي، فقلت:
- أبي نؤجّل زيارة المعتقل إلى موعد آخر، لو سمحت .
- أعدكم بزيارة الخيام في اليومين القادمين، الآن نتابع إلى الضيعة. (قال أبي)
وصلنا إلى كرم الزيتون المطلّ على جبل الرفيع الذي أطلقت منه الميركافا قذيفتها إلى حيث كان يزرع موسى العبوة، وكانت المفاجأة كبيرةً. عدد كبير من أهل البلدة الذين سبقونا يحيطون بالزيتونة مع شبّان من الضيعة، وآخرين من رفاق درب موسى من البلدات المجاورة أعرفهم، يقرؤون الفاتحة، ويحيّون شجاعته. رفعنا أكفّنا نهدي روح شهيدنا الفاتحة. ولكم كانت مفاجأتي عظيمة عندما أبصرت شاباً من إخوة موسى يعلّق البطلون يثبّته، فتحتضنه أكفّ أغصان الزيتونة التي شربت دمه فكبرت كثيراً، وازدهت ألوان ورقاتها، وتحتها كانت الحاجه أمّ موسى تلفّ جسدها النحيل بمنديل اكتسى بياضه من طهر سريرة هذه الأمّ الصابرة المحتسبة التي حضرت تشارك الأحبة العائدين إلى أرض تحرَّرت بفضل دماء كثيرة نزفت فرحتهم. وأسرعتُ أنصتُ بشغف إلى الشاب الذي علّق البنطال، وهو يحكي لهم عن موسى الذي كان حريصاً عليه وعلى الشباب خلال زرعه العبوة، فقال: طلب إلينا الابتعاد عنه، لانّه كان يحسب حساباً لخطر داهم، فأخذت أردّد في سرّي:
"نعم، بنطال موسى كاسي عري الأشجار، دمه مفتاح البوابات والأرض والمدن والقرى".
تقدّمت من أمّ الشهيد موسى وقبّلت منديلها، وهمست في أذنها: "أتسمحين لي باحتضان هذا المنديل الشريف الذي تاتزرين به الآن؟"
- طبعاً، لك ما تريد يا حبيبي.
أخذت المنديل، فرشته برفق تحت الزيتونة، وانحنيت أقبّله وسط تصفيق حاد، وزغرادات متواصلة من أفواه الصبايا المحتشدات معنا، ثمّ رفعته، وشرعت ألوّح به في عين الشمس الدامعة فرحاً، والتي كانت تبارك نصرنا المؤزّر. نعم بكلّ فخر واعتزاز رفعت المنديل عَلَماً جديداً لوطن جديد، حرَّرته الدماء، بل لوّنت أحمره القاني، في حين كانت وريقات الزيتون التي نهلت دمه تكسو أخضره الغامق. وشرعت أردّد:
- أجل، بنطال موسى ساتر عري الأشجار، ودواء حروق الأغصان، ودمه مفتاح البوابات، والأرض. إنّه العلم الجديد لهذا الوطن الجديد..

* قاصّ وناقد وأكاديمي لبناني.