لم تكن مسيرة الرواية السورية عبر العقود الأخيرة مشابهة لأي من مثيلاتها العربية، أكان ذلك في المشرق أم المغرب العربيّين. كانت السمة المميزة ولا تزال إلى حد كبير، هي التخبّط والتأرجح بين محاكاة التجارب الروائية الأخرى (المصرية بدايةً ثم اللبنانية ثم رواية أميركا اللاتينية)، وبين محاولات عبثية لتأسيس «رواية سورية». يمكن رد ذلك إلى تخبّط الهوية السورية وغموضها، وإلى «الحياة المزدوجة» التي يعيشها السوريون عموماً، بين العروبة والهوية الوطنيّة الأضيق، وصولاً إلى «هويّات مستوردة» كالهوية الإسلامية في السنوات الأخيرة.
وربما كان الراحل هاني الراهب (1939 ـ 2009) هو الروائي السوري الوحيد الذي نجا من هذه «المذبحة»، واستطاع إلى حد ما، تكريس عالم روائي خاص لم يتمكّن أي كاتب سوري آخر من تحطيم صخرته. هذا رغم الكم الهائل للروايات المنشورة في العقدين الأخيرين التي تم نسيانها وتجاهلها (لحسن الحظ)، لتبقى المحاولات الجديّة لكتابة رواية سورية مزيجاً بين الحكاية والقصة الطويلة. إذاً، ثمة حكّاؤون في معظم الأحيان، وكتّاب رواية على أفضل تقدير، من دون أن تكون هناك رواية. لم يأت نذير الزعبي (1976) إلى عالم الرواية مباشرة.

يحاول كتابة تاريخ آخر للعراق
في روايته «عشر ليالٍ وليلى»


استطاع تكريس اسمه بدايةً ككاتب لنصوص «فلاش» أو شذرات على الفايسبوك، استقطبت شعبية جيدة، تشجّع بعدها لدخول عالم النشر الحقيقي مع إصداره مجموعة قصصية، ثم أتبعها أخيراً برواية «عشر ليالٍ وليلى» (الدار العربية للعلوم ناشرون). استطاعت هذه الرواية كسر لعنة الحكاية، وحاولت طرق أبواب الرواية الفعلية. إنها بعيدة من «المدرسة السورية» كونها أكثر من مجرد حكاية، وقريبة منها لأنها تستند إلى اللغة الشعرية والمزيج المعقد من الحب والحرب والسياسة والموسيقى والأغاني والشعر من دون أن ننسى السحر والغرائبية. لم يكن بإمكان الكاتب تحقيق هذه التوليفة الصعبة من دون الاستناد إلى واحدة من التقنيّتين الرائجتين: إما عالم ألف ليلة وليلة متداخل الحكايا، أو عالم السيناريو السينمائي. لكن الزعبي اختار الطريق الأصعب واستند إلى التقنيتين معاً. ولعل روايته هذه هي إحدى أهم المحاولات الروائية العربية الجدية في استعارة موشور حكايا «ألف ليلة وليلة».
لم تقتصر مغامرة الكاتب في «موازنة المتناقضات» على مزج تقنيتين فحسب، بل حاول أن يوازن الرواية بذاتها على حبلٍ زلق بين هاويتين: الأولى اعتماده الكبير على التشويق، أكان ذلك عبر لغته الآسرة (مالت أحياناً إلى الاستعراض بسبب تسلل أسلوب النصوص الأدبية القصيرة)، أو عبر المونتاج في تقطيع المشاهد وخلط الحكايا الفرعية. والثانية هي محاولته كتابة رواية «مغايرة» تختلف عما اعتاده القارئ. إذ اعتمد الزعبي على الإيحاء في معظم المواضيع الإشكالية. ليس ثمة تحطيم مباشر للتابوهات، لكن الجرأة حاضرة في معظم الحوارات في الرواية. كذلك، ضاعف الكاتب صعوبة مهمته المرهقة، وأوغَلَ في التجريبية، ليحقق معادلة شديدة التعقيد في المزج بين الميتا- رواية، وتداخل الأزمنة الروائية، وامتزاج الحكايا والمصائر، وصولاً إلى تحطيم التاريخ ومحاولة كتابة تاريخ آخر للعراق (وهو المسرح الأساسي للأحداث) ليترك القارئ في حيرة أمام تمييز الوهمي عن الواقعي، والمغول عن الأميركيين، والسحر عن العقل، والأحلام عن الكوابيس، وعطر المرأة عن رائحة الموت... والأهم، الوصل عن الهجران. إذ إنّ «عشر ليالٍ وليلى» هي رواية الهجران بامتياز. لا تخلو أي حكاية فيها من رحيل مباغت لصديق أو حبيب، رحيل مفاجئ كالطعنة، يترك الشخص الآخر في العلاقة محطّماً ومهزوماً وعلى شفير الانفجار أو الانتحار أو انتظار «الموت العادي». وهذا الموت بالذات، الذي يعد أكثر الأمور واقعية في حياتنا اليومية، أصبح هو الحلم في زحمة أنماط الموت الأخرى غير العادية، من قتل وحرق وذبح.
ربما كان لهذه التوليفة إغراءاتها في الكتابة، لكنها مغامرة محفوفة بالمخاطر عند القراءة. لن يملك القارئ، على الأغلب، سوى أن يحب الرواية أو أن يبقى من دون أي شعور واضح تجاهها. لكنه، وإلى حد كبير، لن يستطيع نسيانها لأنها نسفت ما اعتاد قراءته. وفي كل الأحوال، يُحسَب هذا الأمر للكاتب لأنه اختار الطريق الأصعب التي قد لا تُفضي إلى شهرة سريعة، لكنه يبدو متنبّهاً لهذا الأمر، وغير مكترث له، بخاصة أنّ اسمه اقترن بصفحة «أطياف صور» الفايسبوكية التي حقّقت شهرة أكبر من صاحبها بكثير.