في مجموعتها الشعرية الثانية «ما ماتَ يولد» (الدار العربية للعلوم ناشرون)، تبدو عبير خليفة منهمكة بتكريس تلك الممارسات اللغوية التي جعلت باكورتها «أنا الأميرة، أنا الأمَة» منتمية إلى كتابة تختلط فيها التخيلات الذهنية والمنطقية باستعارات فُكِّرَ فيها مراراً. كأن ما نقرأه في قصائدها قد خضع لتقنيات الحذف والاقتضاب والصقل أكثر من استسلامها لتدفق اللغة والصور.
هناك عناية فائقة تقارب الهوس في ضبط السطور والمقاطع والكلمات، وفي تجريب خيارات عديدة قبل إعلان الحصيلة النهائية. بهذه الطريقة، يتحول الشعر إلى نص مركب غايته أن يخدم الذات وأن يُرضي مزاجها ومشاغلها. هناك مخاطبٌ في أغلب القصائد، وهناك مناخات حب، ولكن الآخر مستثمرٌ كمخاطبٍ لغوي تقريباً، بينما الحب يفقد سيولته العاطفية لصلاح لغة رثائية وذاتٍ خاسرة وتأملات شخصية. توصيفٌ مثل هذا لا يلغي التفاوت في جودة قصائد المجموعة. الرهان على الجودة والدهشة موجود في مقاطع أو سطور أو صور منفردة، وليس موزعاً في جسم
القصائد.

القصيدة الواحدة تبدو أحياناً أكثر من قصيدة بسبب روحيتها المركبة وغَلَبَة الصّنعة عليها، والنتيجة هي شعر يحملُ أفكاراً وهواجس أشبه بعرض حال للذات أكثر من كونه شعراً ينضم إلى مشهد شعري تشارك أسماء شابة ومجايلة للشاعرة في كتابته وإنجازه. الشاعرة نفسها تقول: «حتى الآن/ لا أحمل الشعر على محمل الجدّ/ أكتبُ لأني هشّة/ فلا ينكسر الوزنُ/ بين كلمةٍ حكيمة وأخرى أقل شأناً».
ليس مطلوباً من القارئ أن يصدّق هذا التصريح الذي يبدو نوعاً من الكتابة داخل الكتابة، ويشير إلى أن ما نقرأه هو خلاصة تردد وحيرة وخوف من الكتابة أيضاً، فنقرأ تصريحاً آخر مثل: «احتفظتُ بقصيدة/ لأعمل على كتابٍ ثالث أضعها فيه». وفي الحب أو ما يشبهه، نقرأ: «أحبُّ حبّكَ لها»، ثم مقطعاً مثل: «لا ينظرُ إلى عينيّ/ بينما أُخفي فيهما الكثير/ أنظر إلى عينيه/ حيث يظن أني لا أوجدُ إلا فيهما/ كم هو سعيد/ وكم أنا حرة».
الحب نفسه «يُفسد» مقاطع أخرى حين يحضر بصوره الاعتيادية، فنقرأ: «صوتكَ هامسٌ يحدو لي/ فأغيب/ أطوف في صحرائك/ تثبّتُ آثار أقدامي/ فلا أرحل/ أعبر بين الذكريات/ أنسى ما أنسى/ أنثر على الخوف ريحكَ/ فأهدأ».

تحتاج القصيدة إلى هواء آخر تتنفس فيه تراكيبها الذهنية

كأن القارئ يحتاج إلى أن يعثر في كل قصيدة على سطر مدهش أو استعارة لامعة كي ينشغل عن تلك المقاطع التي تبدو عادية أو أقل إدهاشاً. هكذا، يواصل القراءة، بينما تنتظره سطور مثل: «كم يصفونَ الحنانَ بقسوة»، و«ثمة قطرةٌ تلامسُ كارهي المطر»، و«من البحرِ يرى اللؤلؤُ عمقَ السماء»، و«السماء الآن هي نفسها السماء/ حين كنتُ أحبك»، و«مجحفٌ الشروقُ بحقّ الجميع»، بينما «عادلٌ هو المغيب»، و«خارج هذه العدالة الهشّة/ أراقصُ ظالمي/ تماماً كالجميع». وفي المقابل، يشعر القارئ أن هذا الشعر يحتاج إلى هواء آخر تتنفس فيه مواده الأولية وتراكيبه الذهنية، ويمنح الكتابة شيئاً من السيولة التي تسمح بحضور الصور الذكية والمدهشة داخل مساحة نصية مماثلة في الذكاء والدهشة.
يحتاج هذا الشعر إلى بعض اللعب واللهو وحتى إلى بعض الركاكة الحميدة، وإن كان يستمدّ قوته أحياناً من جديّته وفصاحته وضيق مساحته المنغلقة على الذات.