يركض مراسل «الإخبارية السورية» في إحدى حارات حي الشعلان الدمشقي خلف بائع خضار متلاعب بالأسعار. كيف لا يفعل، وقد نجح لتوّه في ضبط أحد تجّار الأزمة متلبّساً؟ مراسلة للقناة نفسها تنتزع تعهّداً من مسؤول تمويني بإحالة مدير مطعم على القضاء، لأنّه «نزّل» علبة محارم لزبون من دون طلب منه. مراسل قناة «سما» يلقي القبض على بائع مياه، ويفسح المجال لـ «ردح» الناس وتذمّرهم من الفساد الذي وصل حتى إلى قطرة الماء. هذه أحدث صيحات الموضة في سوق فضح الفاسدين وكشف المستور من منظور الإعلام السوري الجريء.
لا تهم عناوين البرامج وأسماء الأشخاص. الأمانة تقتضي الإشادة بالجهود المخلصة للكثير من هؤلاء. بعضهم يرغب ضمناً في الاستمرار في التسلسل المنطقي للتحقيق، وطرح أسئلة عن المافيات التي تتحكّم بالسوق والأسعار بمباركة من مسؤولين مرتبطين بهم. هم فقط لا يستطيعون فعل ذلك. وصف «عبد المأمور» يناسبهم تماماً.
التجربة أثبتت أنّ الإعلام السوري «مدرسة» متفرّدة في أسلوب عمله وأدبياته. ابتكار الشمّاعات إحدى وسائله المفضّلة في ادّعاء الجرأة والحرص على المواطن. القوالب حاضرة، وأكباش الفداء جاهزة للذبح. وعند تعذّر ذلك، الأزمة فزّاعة ذهبية. لا صوت يعلو فوق صوت الإرهاب، وجمهورنا سيرضى بأيّ فتات نخلّفه على المائدة. مثلاً، تتغنّى المذيعة مع ضيفها بقرارات «صرف عدد من العاملين في الدولة لأسباب تمسّ النزاهة» من دون أن تلتفت لفئات هؤلاء ومناصبهم. المهم أنّ الحكومة تكافح الفساد، ولو جرى ذلك من خلال عدم التعرّض للحيتان الكبيرة و«القطط السمان».
العقلية الفذّة نفسها على «السوشال ميديا». في هاجس الكهرباء اليومي، تصبّ شبكات الأخبار والصفحات الميدانيّة جام غضبها على وزير الكهرباء عماد خميس الذي أثبت قدرة فائقة على تحمّل السخرية والشتائم. للمفارقة، مَن يتابع أداء الرجل ويوميّات وزارته، يدرك أنّه من أنشط الوزراء على مرّ الحكومات السوريّة.
حتى انتقادنا هذا يشوبه شيء من عقلية الشمّاعات وأكباش الفداء. الحقيقة تقول إنّ القبضة الأمنية المتحكّمة بكثير من مفاصل الإعلام السوري هي المسؤول الرئيس عن هذا الأداء. قبضة تبدأ من التعيينات وتزكية أسماء معيّنة بغضّ النظر عن مؤهلاتها، ولا تنتهي بهواتف التصحيح والتصويب على الهواء مباشرةً. ربّما لا يعلم أصحاب هذه القبضة أنّ حقن المورفين لم تعد تجدي مع جمهور أرهقته الحرب، وأنّ القضاء على الإرهاب يتطلّب إعلاماً حرّاً، فالشمّاعات لم تعد تنفع.