لندن | «الشيوعي الأخير» احتفل أخيراً بصدور أعماله الشعرية الكاملة في سبعة مجلدات عن «دار الجمل» تضم قصائده التي كتبها بين عامي 1952 و2014. سعدي يوسف الذي ولد في البصرة عام 1934، غادر العراق نهائياً عام 1968، ليشرّع مغامرته الشعرية على جهات الريح الأربع. الشاعر الهارب من جحيم «ميسوبوتاميا»، ستتمدد قصائده على خرائط سوريا ولبنان والجزائر واليمن وفرنسا وبريطانيا، وستبقى الصبوة الشعرية شمعته الأثيرة في ليل المنافي.
نظر إلى الأسفل في بدايته الشعرية، فوجد أربعة عشر قرناً من الشعر العربي. تساءل: «أين أنا بين هؤلاء الشعراء؟». تساؤل دفعه إلى بحث خيميائي في اللغة العربية، متمرّداً على البلاغة اللغوية والنبرة العالية والضجيج اللفظي. طوال ستين عاماً، راح يقضّ معجمه الشعري الخاص من صخر اللغة، بحثاً عن الجوهر وروح الصنعة. ويمرّن حواسه على الارتطام بالواقع والمعيش. جاءت قصيدته مكهربةً بالحياة، ولا تنفصل عن شخص شاعرها وسلوكه ومزاجه.
«الأخبار» التقته في هذه المناسبة، ولم تفتنا كهرباء الشباب التي أشاعها الشاعر في الأُمسية التي نظمتها «موزاييك رومز» ومجلة «بانيبال» في لندن. بقرطٍ في أُذنه اليسرى، وقلادة ذهب تحمل خريطة العراق، بدا أنّ الشاعر العراقي الذي احتفل أخيراً بعيد ميلاده الثمانين، هو آخر عمالقة «أرض النبوءات». سألناه عن روح صنعة الشعر، ومغامرته في الحياة، والحزب الشيوعي وبدر شاكر السياب وعن العراق «الذاهب إلى آخر المقبرة».

1- أخيراً، احتفلت بعيد ميلادك الثمانين، واليوم تحتفل بصدور سبعة مجلدات هي حصيلة قصائدك التي كتبتها خلال ستين عاماً. كيف تنظر إلى بدايتك الشعرية اليوم؟
الأُسلوبية اختلفت والأشكال تعددت، لكن صبوة الشعر لم تتغير، بمعنى البحث عن عالم أفضل وعن مغامرة في الحياة ومن أجل الجمال. الصبوة والمغامرة كانتا موجودتين منذ بدايتي الشعرية. وأعتقد أن الفن هو علاج لمحدودية الإنسان كإنسان، لأنّ الفن يجعل المرء مختلفاً، ويجعله أعلى وأسمى من حقيقته البيولوجية.
كتابي الشعري الأول صدر وأنا ما زلت في الجامعة عام 1952، وعنوانه «القرصان»، وهو عبارة عن قصيدة طويلة تتحدث عن مغامرات بحرية. وموضوع الكتاب ذو علاقة بتاريخ البصرة وما يجاورها من الهند وبلدان الخليج. ويضمّ أيضاً استعادة رمزية لجدي الذي اتُّهم بجريمة قتل في العراق، فاضطر إلى الهرب إلى الهند، وظلّ هناك سنوات ثم عاد، حين انتهت مدة عقوبته.

أُسمّي قصيدة التفاصيل اليوم
بأنّها قصيدة الذات الخاوية، وبتفاصيل
لا تعني شيئاً


2- تجربتك في الحزب الشيوعي العراقي ومع بدر شاكر السياب طبعت جزءاً من تجربتك ومزاجك الشعري. كيف تستعيد هاتين التجربتين؟
بالتأكيد، وما زالتا. عام 1949، وكان عمري خمس عشرة سنة، كنت عضواً في الحزب الشيوعي العراقي. وأيضاً عام 1949، أُعدم قادة الحزب الشيوعي: فهد ورفاقه وانتهى التنظيم وتفكك. بعدها بفترة لم تكن طويلة، بدأ التنظيم يعود تدريجاً. قيل لي إنّ رفيقاً لي سيأتي ويعيد اتصالي بالتنظيم. ذهبت إلى الموعد، فكان بدر شاكر السياب هو الذي أعاد صلتي بالحزب الشيوعي. وظلّت علاقتي بالرجل مستمرة وسليمة، رغم تبدّل الظروف السياسية. بعدما خرجت من السجن عام 1964، كان بدر في «مستشفى الميناء» في البصرة، وكنت تقريباً أزوره يومياً في المستشفى، وهو كان الشخص الثاني الذي أخبرته بنيتي بمغادرة العراق عام 1964. في السنة ذاتها، ذهبت إلى الجزائر، وكان بدر قد توفي.
وكتبت عنه قصيدة عنوانها «مرثية»، حاولت أن أستخدم فيها أُسلوبه الشعري. وما زلت أعتبر بدر معلّماً، على الأقلّ لي، في الفن الشعري. وأعتقد أن بدر شاكر السياب أثار أسئلة في الفن الشعري لا تزال تنتظر أجوبة. قصائده مثل «النهر والموت» و«المسيح بعد الصلب» و«أُنشودة المطر»، وغيرها منجزات عجيبة في فن الشعر العربي.

3- الشعر في عالم اليوم صار مفتوحاً أكثر على التجريب، ومتشابكاً مع فنون ووسائط متعددة. كيف تقيّم تجربة الحداثة الشعرية العربية؟
بدر ذهب إلى لبنان، وعندما عاد من بيروت التقيت به. قال لي: الناس يتحدثون عن قصيدة «النسر»، ويتحدثون عن «الحداسة» (الثاء تحوّلت سيناً). وكان بدر يتحدث بنوع من المزاح أو السخرية عن النقاش الدائر في ذلك الوقت في الستينيات. لم يستطع بدر أن يأخذ مسألة «الحداثة» جدياً. وأنا حتى الآن، أعتقد أنّ بدر له حق في رأيه. لكن برأيي، إذا كان هناك اختراق حقيقي وعميق في الفن الشعري العربي، سيكون عند يوسف الخال وخليل حاوي. هذان الرجلان لم تكن مغامرتيهما الشعرية شكلية على الإطلاق. نعم، هناك شكل واضح لقصيدتيهما، لكن لم يكن عندهما لعب. قصائدهما كانت من دون شكليات متعمّدة. وهما كانا أكثر طلاقة لسان من سواهما، برأيي. «البئر المهجورة» ليوسف الخال أثر شعري فذّ. وخليل حاوي ليس قليل الشأن. الخال وحاوي لديهما العمق الوجودي، والابتعاد عن الشكلية. طبعاً، أنا أتحدث عن جيل الأساتذة، وأتجنب الحديث عن الساحة الحالية الآن، لأنّ فيها التباسات كثيرة.

4- ما أبرز هذه الالتباسات؟
أبرز الالتباسات عدم تمثّل الروح الحقيقية لقصيدة النثر. أُعطيك مثالاً، بودلير كتب ديوان «سأم باريس» الذي يضم أوّلى قصائد النثر، حتى يقترب من الناس. عندما فتح البولفار الأول في باريس، قرر بودلير أن يكتب للناس، وقصيدته الأولى تتحدث عن شخص فقير تحت ضوء مصباح. وهذا يعتبر تطوراً خطيراً في توجه الفن الشعري. نحن عندنا فعلنا العكس. أخذنا شكل قصيدة النثر لكي ننفصل عن الحياة ونبتعد منها. هذا البعد من الحياة في الفن الشعري العربي، لا أدري ما سببه. خوف؟ عمل المثقف العربي وارتباطه برب العمل؟ دولة وسلطات تمنعه من التعبير؟ كأنّ لسانه منعقد. الآن تقرأ ما يكتب من شعر، لن تجد الإشكالات الكبرى التي نمرُّ بها. لا أحد يكتب عن إبادة الأمة هذه، كأننا ما زلنا في حفلة رقص مستمرة. وهذه كارثة.
5- السياسة لا تنفصل عن الشعر. هذا على الأقل ما نلمسه في قصائدك التي تناولت فيها العراق. لماذا بات المثقف العربي خائفاً من الخوض في السياسة؟

بدر شاكر السياب أثار أسئلة
شعرية لا تزال تنتظر أجوبة، والاختراق الحقيقي والعميق جاء من يوسف
الخال وخليل حاوي

لا، المثقف العربي يعمل في السياسة التي تدر مالاً. ويبتعد من السياسة التي تتطلب التضحية والنضال والسجن. برأيي، لقد بُني عندنا مسرح نقدي، أُسميه غزلياً، ضد مشاركة المبدع في القضايا الملحة. هذا المسرح النقدي يقول لك إنّ الفن لا علاقة له بالسياسة وبالإشكاليات الاجتماعية.

6- ما رأيك بقصيدة التفاصيل التي تلتقط العادي واليومي، وتكتب من قِبل الشعراء الشباب اليوم؟
أنا أُسميها قصيدة الذات الخاوية، وبتفاصيل لا تعني شيئاً. ما دامت الذات خاوية وغير عميقة، فلن تجد فيها تفاصيل تشكل علاقة مع الآخر. برأيي، استخدام التفاصيل ينبغي أن يخضع لنظرة فنية سليمة. يمكنك أن تكتب عشر قصائد عن الطاولة والكتب والسيدة الجالسة هنا وهذا التطريز الفلسطيني. وهذه مسألة مهمة. لكن هناك أمر أساسي في الفن أنّه يعتمد على الحواس، وليس على التأمل. إن كان العمل في الأساس تأملاً فكرياً خاوياً، فهذه ليست من أخلاقية الفن. وما أقصده هنا أنّ الخصيصة الأخلاقية في الفن هي ارتطام الحواس بالواقع وما حولها. وهذه التي تشكل الصورة الشعرية والموسيقى، وتشكل علاقة بين الناس والفن والحياة.
أخلاقية الفن ينبغي أن تعتمد أولاً على الحواس. والفكر يأتي تالياً. مثلاً، المصدر في اللغة العربية مجرد من الزمان والمكان. بمعنى أن المصدر تجريد. لكن الفن مثل الرسم والنحت يستخدم المادة الخام، التي يقابلها في العربية الفعل والاسم الجامد مثل باب وشباك وكأس. كلما وجدت مصادر أكثر في النص الشعري، أشطب عليها. لأنه ليس هناك تعامل مع الحقيقة. كثرة المصادر تعني رداءة النص بمعنى استخدام المصدر ككلمة مثل «الحب».
الشاعر لا يقول «الحب». ولكن يقول كيف تحب؟ عندما تقول «الحب» سيكون هناك توصل أولي، وإلغاء للعملية الفنية. وهنا الصعوبة في الشعر.
الحق أنني بقيت أُجرب طوال 20 سنة حتى استطعت استعمال الفعل والاسم الجامد فقط في القصيدة. هذه حرفة صعبة. المصدر لا أستعمله. والمشتق أستعمله قليلاً. أستعمل الاسم الجامد والفعل فقط. وهذا ما يخلق الحياة في القصيدة. الاسم الجامد يتحرك ويصير يفعل. البقية مثل التشبيه والنعت والحال التي تسمّى الفضلة، أي الزوائد في اللغة العربية، لا أستعملها أيضاً. الاسم الجامد والفعل هما المادة الخام في اللغة العربية التي ينبغي للشاعر التعامل معها مثل الحجر الذي هو المادة الخام للنحات، والألوان التي هي المادة الخام للرسام.

7- من تقرأ اليوم من الشعراء العرب والأجانب؟
حالياً، أقرأ الشاعر الإيطالي أُونغاريتي، وأقرأ الشعراء القريبين من «الكامبوس» الأميركي (شعراء الجامعات الأميركية)، لأنه جيل النبض الجديد في القصيدة الأميركية. المشكلة الآن في العالم أنّه مع تسليع كل شيء. ولذلك لم يعد الشعر قائماً كما كان، خصوصاً في أوروبا. أنا أُتابع الشعراء الفرنسيين، لكنني لا أستطيع أن أقول أنه يوجد في فرنسا شعراء. يوجد شعر فرنسي يلعب بالكلمات، لكن لا شعر حقيقياً كما الجيل العظيم لفرنسا مثل إيلوار وأراغون. وهذه الحالة تصح على كثير من البلدان في أوروبا.
قد نبحث عن الشعر في فييتنام ولاوس ورومانيا. الإيطاليون لا يزالون يكتبون شعراً، وهذا شيء مفرح في أوروبا. يا أخي، إيطاليا لها خصوصية معينة، ربما لأنّ 70% من الناس فاشيون، وبقية الشعب تكتب الشعر (يضحك).
حالة الشعر العربي لا تختلف كثيراً عن حالة الشعر الأوروبي. المشهد ليس مغرياً إطلاقاً. ولا أدري ماذا يحدث الآن. ربما لوجود خوف شامل، انعقدت ألسنة الناس. حتى في بلدان تتمتع بحرية نسبية مثل لبنان. كل الجرائم التي تمرُّ علينا والجزمات العسكرية والقتل تخرج من التاريخ، ولا أحد يكتب عنها. على الأقل، الأوروبيون لا يكتبون شعراً لأن حياتهم ارتفعت إلى مستوى مريح، ويمكنهم الاستغناء عن فن من الفنون. كل مصائبنا في العالم العربي ولا أحد يكتب عنها حرفاً واحداً.

8- أخيراً، ظهر تنظيم «داعش» كواقع على الخريطة السياسية العراقية والسورية، أي مستقبل ينتظرنا؟
عندما احتل الأميركيون العراق عام 2003، قلت إنّ نصف قرن لا يكفي لاستعادة العراق كما كان. وهذا منذ حوالى عشر سنوات. أرى أنّ دورة الخراب وتدمير النسيج الاجتماعي والثقافي وتاريخ البلد ستستمر. وما يحدث اليوم هو تفاصيل عملية الخراب هذه.
www.saadiyousif.com