اكتشف وزير العدل اللبناني فجأة، أن مجموعة من الشباب بادرت في بيروت إلى احراق علم التتار الدواعش. بدا جاهلاً أن التحرّك العفوي الذي قضّ مضجعه جاء، قبل أسابيع لا «بالأمس»، ضمن ردود الفعل على تراجيديا عرسال المخزية لكل لبناني يحتفظ بشيء من الاحترام لدولته، ومن الإيمان بمؤسساتها، لكن علاقة اللواء أشرف ريفي بالزمن ليست خطية ولا كرونولوجيّة، بل فلسفيّة وماورائيّة. إنّه مثل كلّ #الأشراف_لا_يتقاعدون رجل مبادئ.
وبما أن جدول أعمال معاليه ليس مزدحماً هذه الأيّام، فقد قرّر أن يتسلّى قليلاً، ويسلّي معه مواطنيه، أو يهيّجهم إذا شئنا أن نكون دقيقين. «اضبطوا هؤلاء المخرّبين، مدنّسي القدسيّات، وأحيلوهم إلى المحاكمة»، نتخيّله يصرخ بأعلى صوته، كما كان سيفعل أي انسان وطني ورع، طُعن في إيمانه ووجدانه.
وكما سها اللواء طرطوف عن تاريخ الاحتجاج في ساحة ساسين وظروفه، فاته أيضاً أن كلام الله في القلوب والعقول، في النيّات والضمائر، في الأقوال والأعمال، لا على خرقة قماش ترمز الى تنظيم ارهابي سيبتلع المشرق إن لم تتكاتف الجهود والارادات لإبادته كما الطاعون. «سهو» الجنرال تفصيل استراتيجي، وحدهم قادة المحاور يفقهون أبعاده الخطيرة. المهمّ أنّه فتح جدالاً ميتافيزيقيّاً: هل احراق خرقة يعدّ جنحة في نظر القانون الريفي، لمجرّد أن عبارات كتبت عليها تحيل إلى الدين والايمان؟ هذا المنطق وثني، يا جماعة، لا إيماني، لكن الأهمّ من كل ذلك أن التحرّك جرى في الأشرفيّة، إذاً هؤلاء الشبان من «النصارى». يا لهوي! «نصارى» يحرقون رموزاً اسلاميّة.

الطفل المعجزة
نديم الجميّل يستنكر الإحراق الذي لا يليق «بشيم أهل الأشرفيّة»

هكذا حركش «رجل الدولة» البار في مستنقع الطائفيّة الآسن، كما فعل رفيقه في الاتجاه التنويري المستقبلي الاعتدالي نفسه بالأمس، إذ قال الليبرالي العروبي الأغرّ فؤاد السنيورة للمؤتمرين في فندق على خطوتين من ساحة ساسين إيّاها: «أنتم أقرب إليّ من ولاية الفقيه». هذا يسمّى الاعتدال والوسطيّة في السياسة، لمن يجهل المعايير الفكريّة الجديدة للزمن الداعشي.
قبل أن ينغمس اللواء ريفي في قضيّة غامضة جديدة، تتعلّق بإحراق صلبان هذه المرّة (حتى التحريض الطائفي يراعي قاعدة الـ «ستة ستة مكرّر»!)، حرّك مشكوراً المشهد الفكري الراكد. فإذا بالطفل المعجزة نديم الجميّل يستنكر الاحراق الذي لا يليق «بشيم أهل الأشرفيّة». وإذا بنصير الأحرار إبراهيم كنعان يلبس عباءة دانتون، ويعلن: أنا سأدافع عن «أبطال» ساحة ساسين. باختصار البازار السياسي الضيّق شغّال على حساب اللحمة الوطنيّة والاستقرار الأهلي، مع محاولة خبيثة لربط الارهابيين بجزء من الشعب اللبناني. والشعب مغلوب على أمره كما نعرف جميعاً، أليس كذلك؟ وسفاحو الزمن الوهابي لم يتأخّروا في دخول اللعبة، ومذهبة قضيّة الرهائن. لم لا، ما دامت الحياة السياسيّة اللبنانيّة التافهة تسمح بذلك؟ ألم تسمعوا الناطق الرسمي باسم «لبنان الجديد»؟ أعلن مسيو مصطفى الحجيري أن إطلاق «الرهائن المسيحيين تأخّر» بسبب الخرقة المحروقة في ساسين. أرأيتم؟ إما أن الجنرال الرؤيوي كان على حقّ، أو أن التنسيق على أتمّه بين رفاق السلاح الواحد…
يبقى السؤال الشائك: أين الإعلام اللبناني من كل ذلك؟ كيف عساه يؤدّي عمله فوق حقول الألغام، من دون أن يكون بوقاً لهذا المحرّض الرخيص، أو علبة بريد لتلك الجماعة الإجراميّة؟ عندما قطع تلفزيون «الجديد» في ٣ آب (أغسطس) الماضي، المؤتمر الصحافي لنوّاب الفتنة الثلاثة، صفّقنا بكل قوانا. قلنا: نعم! من حق الاعلام - بل من واجبه - أن يختار ماذا يقدّم وكيف يقدّمه. ليت هذا القرار الشجاع والمسؤول يبقى القاعدة في كل الاعلام الرصين والجاد في لبنان في هذه اللحظة العسيرة. الا يمكن اختيار الوقائع التي ينبغي تقديمها، والشكل الذي تقدّم به، والتدقيق النقدي بها، وأخذ مسافة منها عند الضرورة؟
يسهم الجزء الأكبر من الاعلام اليوم للأسف، بدافع الأمانة المهنيّة أو الاثارة الشعبويّة أو الموقف السياسي لا فرق، في لعبة التهويل، وتضخيم الاحداث والمواقف والتصريحات، وترويج الخوف والذعر والانغلاق والتعصّب. وهو بذلك ـــ رغماً عنه (إذا استثنينا المنابر التي تكاد تكون مهمّتها المعلنة الترويج للفتنة والعنف والتعصب والانحطاط) ـــ يصبح حليفاً موضوعيّاً للجراد الأسود الذي يتهدد منطقتنا. هناك صور عنيفة لا نريد أن نراها، وفيديوهات عدم بثّها لا يغيّر شيئاً في وعي المواطن وحقّه في المعرفة والوصول الى المعلومات، ورسائل ترويجيّة أو تحريضيّة من الارهابيين ينبغي أن ترمى في المهملات، أو أن تذاع بالحد الادنى، ومن دون تطبيل وإطالة وصدارة، ومع نشر المضادات الحيويّة المناسبة. هناك ممالآت سياسية في البرامج الحواريّة، وتواطؤ مشبوه مع السياسيين بدلاً من محاججتهم، وسلوكيّات زحفطونيّة، تشعر أي اعلامي بالخجل. هناك تحقيقات ميدانيّة نحن بغنى عنها، إذ إنها تسهم في حالة التطييف والتشنّج والذعر والدعاية الداعشيّة. مهزلة أبو ابراهيم كانت مطبّاً صغيراً ليتنا نستخلص دروسه بصرامة. هذه المرّة نحن أمام مواجهة مصيريّة جديدة من نوعها، ستحدد وجودنا وحريّتنا لأجيال طويلة مقبلة. آن الأوان - بدلاً من النشرات المشتركة، الفولكلوريّة ـــ أن نلزم أنفسنا ونلزم بعضنا بعضا بقواعد الحدّ الأدنى، التي تحمي الاستقرار وتحمي الجميع. آن الأوان لوضع ميثاق أخلاقي ومهني ملزم، ينبذ كل أشكال التحريض المذهبي، ويحدّد كيفيّة التعاطي مع الإرهاب والإرهابيين. ومن يخرج عنه يتم التعامل معه بصفته امتدادا للمشروع الانحطاطي الذي يشتغل على إغراقنا في ليل عميم وطويل.