لن يجد الباحث في تاريخ اليسار اليمني الحديث سهولةً وهو يسعى إلى الحصول على تدوينات معتمدة لذلك التاريخ. قد يبدو من الصادم الوقوف أمام حقيقة أنّ «الحزب الاشتراكي اليمني» ـ باعتباره عميد أحزاب اليسار اليمنية ــ بلا مكتبة متينة أو مركز للدراسات والبحوث في هيكله التنظيمي. قد يتعاظم حجم الاستغراب عند مقارنة حالة الاشتراكي اليمني في مسألة البحث والتوثيق، مع حالة حزب محافظ وقبلي مثل «حزب الإصلاح» (إخوان اليمن).
الأخير يمتلك مركزاً بحثياً متقدّماً على درجة عالية من التنظيم والتطوير الدائم.
في هذا السياق، يمكن اعتبار كتاب «اليسار اليمني: ظالم أم مظلوم؟» (رياض الريّس) للباحث أحمد الصيّاد محاولة كفيلة بفتح الطريق من أجل سدّ حالة الفقر الطاغية على مكتبة اليسار في اليمن.

في قسمه الأول، اعتمد الكتاب تقديماً للمراحل التي مرّ بها ذلك اليسار وأطره التمهيدية منذ لحظات تأسيسه مقسّماً على مسارات مختلفة منها الاتجاه الذي خط لذاته السير في السياق القومي العربي من جهة، والاتجاه الاشتراكي من جهة أخرى.
وإذا كان الفكر الماركسي في اليمن قد ظهر متأخراً زمنياً مقارنة بتوقيت ظهوره في بلدان عربية أخرى، إلا أنه شكّل تجلياته الأولى في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.
وإذا كان ذلك التشكيل قد بدأ في جنوب اليمن وبقي محصوراً في مدينة عدن، فقد احتاج لمسافة زمنية من أجل تحقيق وصوله إلى الشمال.
تأخُّر يمكن اختصار أسبابه في عوامل مختلفة منها حالة العداء الشعبي الذي شهدته الشيوعية في الساحة العربية عموماً بعدما نجحت الأنظمة الحاكمة في تصوير «الشيوعية بأنها تعني هتك الكرامة الإنسانية والانحلال الخلقي والاباحية في المال والعرض».
أضف إلى ذلك بقاء اليمن في تلك الفترة تحت حكم استعماري إمبريالي بريطاني في الجنوب وهيمنة طبقة الاقطاع في الشمال. عملت الجهتان بطبيعة الحال على محاربة كل ما هو تقدمي وما من شأنه أن يهدد وجودهما ومصالحهما.

تجنّب تحديد المتورّطين في
مجزرة 14 كانون الثاني (يناير) 1986



في ظل هذا المناخ العدائي، استمر اليسار على مختلف مسميّاته في العمل على تكوين النقابات العمّالية وإخراجها من إطار النضالات المطلبية إلى ربطها بالنضال السياسي والطبقي. إلا أن هذا لم يكن اشتغالاً يسيراً بالنظر إلى الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان جاثماً على اليمن، إضافة إلى ضعف الطبقة العاملة وطغيان الطبقات البورجوازية واشتغالها على تفتيت حركات التحرر الوطنية والتوغل فيها ما أدى في نهاية الأمر إلى « مرحلة من الإفلاس الفكري الشامل» نجحت في ضرب حركات اليسار ودفعت لإجراء إعادة تصوّر شاملة بهدف تحقيق «عملية البناء الاشتراكي». وهو الأمر الذي يتطلب تجميع تلك القوى اليسارية في حزب طليعي «يقود نضال الطبقة العاملة ويلتزم بايديولوجية هذه الطبقة نظرياً وعملياً».
يمكن الانتباه هنا إلى أنّ فكرة الاشتراكية العلمية قد أكدت أنّ عملية انتصار الطبقة العاملة لا بد من أن تكون مرتبطة بضرورة وجود حزب سياسي واحد «يمثّل طليعة ثورية لها» ويولى أمر تنظيمها.
من خلال هذه الفكرة، جاء تأسيس «الحزب الاشتراكي اليمني» عام 1978 ضامّاً في هيكلته مختلف الحركات اليسارية في الجنوب ومجموع القوى التي كانت تعمل في الشمال. وتم تعريف الحزب الاشتراكي بأنّه «طليعة الطبقة العاملة اليمنية المتحالفة مع الفلاحين والفئات الشعبية الكادحة الأخرى». بعد التأسيس والتنويه بمنجزات الحزب الاشتراكي التي لم يبخل الصيّاد في المرور عليها في إصداره، ذهب المؤلف إلى التذكير بـ «المصائب» التي فعلها الحزب، وخصوصاً مجزرة أحداث 14 كانون الثاني (يناير) 1986 التي وُصفت بأنّها واحدة من عشرة أحداث هزّت العالم بين رفاق الحزب الاشتراكي «الذين دمّروا خلال 11 يوماً ما لم تدمره الحرب اللبنانية خلال 11 عاماً».
إلا أن الصيّاد يقع مجدداً في شرك الشهادة العامّة التي لا تورد أسماء متورطين، وهو السلوك الذي فعله في كتابه «اليمن وفصول الجحيم» (2010)، حيث قدّم كتابة سياحية واصفاً ما حدث كشاهد، متحاشياً تحديد أسماء من كان وراء ما جرى. وربما يكون السبب هنا أنّ غالبية تلك الأسماء ما زالت على قيد الحياة وفي صلب العمل السياسي المحلي.
لكنّ هذا أمر حاول الصيّاد تجاوزه إلى تنويه يقول بضرورة تجديد اليسار اليمني من خلال البحث في تأصيل علاقة النزاع بينه وبين مفهوم القبيلة التي يحترمها، مؤكداً أحقيتها في الاستمرار في بنية المجتمع المحليّ، لكنه دعا إلى ضرورة عمل اليسار على محاربة تكريس «اللجوء إلى النفوذ القبلي للتهرب من تساوي المواطنين بصرف النظر عن قبائلهم ومناطقهم وأصلهم».
فكرة تُثير قلق النخبة اليمنية في هذه الأوقات الصعبة التي يمر بها اليمن اليوم مع تعاظم الدور السياسي لجماعة الحوثي التي تعتبر تابعة للسياق القبلي والأسري الآتي من قاعدة النظام الأمامي السابق الذي اعتمد خلال فترة حكمه على دعم «العلاقات القبلية والعشائرية واستخدام النزاعات والخلافات بين القبائل لكي يُثِّبت سلطته ويحافظ على استمرارها». في ختام هذا الإصدار، يعلن الكاتب اعتقاده الشخصي بأنّ اليسار اليمني «تعرّض لظلم جميع أنظمة الحكم المتعاقبة ومعها مختلف قوى الظلام». لكن حتّى وهو يقوم بالتنويه إلى دور «قوى الظلام» هذه ويقصد بها الأحزاب الدينية، يتردد في تحديد هويتها، علماً أنّها القوى السياسية نفسها التي تحالف معها الحزب الاشتراكي رغم اعتراضات طبقة عريضة من قواعده الحزبية وأعضائه واعتبارها أنّ تلك التحالفات تعمل على تعطيل الدور التقدمي المناط بالحزب في البيئة المحلية. تحالفات ما زالت حتّى اليوم تعمل على إنهاك سير الحياة المدنية في اليمن.