ربما كانت سوريا هي البلد الوحيد، من بين جيرانها، الذي نجا من غزو المنظمات غير الحكومية والتمويلات الأجنبية، وصولاً إلى عام 2011. ليس مصادفةً أنه العام ذاته الذي أرّخ للانتفاضة/ الحرب السورية. بطبيعة الحال، كانت النوافذ والأبواب جميعها مغلقةً أمام أي فسحة ملونة لكسر اللون الكاكيّ الذي خيّم على سوريا طوال نصف قرن. لا يتّسع المجال للبحث في أسباب (محاسن أو مساوئ) الابتعاد من حضور المنظمات غير الحكومية، لكن يمكننا القول ــ بشيء من التعميم ــ إنه تزامنَ مع الانتفاضة/ الحرب، لكنه لن ينتهي بانتهائها. بإمكان أي مراقب بسيط مقارنة نتائج «جنة الـ إن. جي. أوز» في بلدان قريبة كلبنان والأردن وفلسطين والعراق، مع «الجحيم المغلق» أيام الدكتاتورية، ولن يتردد كثيراً قبل التحسّر (للأسف طبعاً) على أيام الانغلاق واللون الواحد.
كان لا بد من كتاب توثيقي يرصد الحراك الثقافي في سوريا الانتفاضة. كان من الطبيعي كذلك أن تلهث دور النشر وراءه، كأي نتاج سوري آخر خلال السنتين الأخيرتين تحديداً. ومن هذه النقطة بالذات، تنبع أهمية كتاب «سوريا تتحدث: الثقافة والفن من أجل الحرية» الذي صدر أخيراً عن «دار الساقي (إعداد زاهر عمرين، مالو هالاسا، نوارة محفوض). لا بد من التأكيد بدايةً أنّ المهمة الأساسية لهذا الكتاب كانت توثيقية. لذا، من المفترض أنّ أي قارئ غريب عن المشهد الثقافي السوري سيجد لمحة شاملة ــ ولو بإيجاز ــ عن هذا المشهد الذي كان ولا يزال ضبابياً إلى حد بعيد. سيجد هذا القارئ أنّ الصورة قد أخذت حيّزاً معقولاً من الكتاب. وهذا تثبته الوقائع لأن المشهد البصري كان، وسيبقى إلى فترة جيدة، المشهد الأمثل للتعبير عن مكنونات السوري بكل تجلّياته. لكن القارئ المطّلع سيُفاجأ بالحيز القليل نسبياً الذي تم إفراده للصورة، إذا قارنّاها بحضور مكرَّس أكبر للنصوص الأدبية والنظرية. بدت الصورة إطاراً هامشياً للنص. ربما كان هذا صحيحاً قبل أربع سنوات، لكن المشهد الثقافي الفعلي يؤكّد أن الصورة الآن هي المركز. أما النص، فلم يرتقِ بعد إلى مستوى نصوص ما قبل الانتفاضة/ الحرب في الغالب الأعم.

تجاهل لنتاجات
الداخل كأنّها مُلحَقة بمؤسسات السلطة

من هنا بالذات، تبدأ مشكلات الكتاب، بل بالأحرى، تبدأ وتتكرّس من العنوان. ما معنى «سوريا تتحدث»؟ لمَ هذا التعميم مع أنّ الكتاب لا يتجاوز 300 صفحة؟ ما سمات هذا الفن وتلك الثقافة التي تسعى «من أجل الحرية» ويمكن اختصارها بـ 300 صفحة؟ إما أنّ العنوان فضفاض بدرجة كبيرة (لأغراض تسويقية بطبيعة الحال) أو أنّ العنوان كان متعمّداً، للإشارة إلى أن هذا الكتاب هو سوريا، وكل نشاط آخر لا يحقّق «معايير» هذا العمل لا يستحق الإدراج هنا. ولا بد من الإشارة كذلك، إلى أن هذا الكتاب/ الانطولوجيا يخلو من أي معايير واضحة في انتقاء النصوص أو الأعمال الفنية. كان يمكن الاكتفاء ــ لمداراة الحرج والتزام الموضوعية ــ بالمبادرات الجماعية، كيلا يقع الكتاب (وقد وقع فعلاً) في ورطة إقصاء أسماء على حساب أخرى.
سنلاحظ بأنّ معظم المشاركين (54) خارج البلاد. إنها إيماءة قاسية إلى مصير الفن والثقافة في بلدٍ كان إسفنجة تمتص كل الطاقات، وأصبح تدريجاً جهاز طرد مركزي سيصبح قريباً أحد أكثر البلدان طرداً للكفاءات. لكن في الوقت ذاته، قد يكون لهذه الإيماءة دلالة أشد قسوة: هل تُقدم الثقافة السورية في الداخل كأنها غير موجودة أو أنها مُلحَقة بمؤسسات السلطة؟ تبدو الاختيارات في الكتاب أقرب إلى الدلالة الأخيرة، مع أنّ الواقع يقول إنّ معظم من سافر لم يُبدع شيئاً بعد، أو أنّه نشر ما كان قد أبدعه في الداخل. ليس ثمة معيار حاسم لقضية الداخل/ الخارج، لكنها ستطرح نفسها بقوة في الفترة المقبلة. لا تزال الهويّة البصرية الأكثر حضوراً ونضجاً. أما الكتابة (الإبداعية والنظرية معاً)، فلا تزال قاصرة إلى حد بعيد. لا نجد في النصوص الأدبية أي تميّز (إذا استثنينا النصوص الممتازة لجولان حاجي وعبود سعيد)، بل إن إعادة نشرها في هذا الكتاب تبدو «عقوبة» لإرغامنا على إعادة قراءتها، والتأكد مرة أخرى من مستواها الفني المتدنّي. يُفترَض بأي ثورة أو انتفاضة، أو حتى حرب، أن تكسر الرتابة. ما حصل في سوريا أنّ الانتفاضة/ الحرب اكتفت بتناسي الرتابة السابقة، لتكرّس رتابة «نيو- بعثيّة» أشد قسوة، بخاصة أنّها متسلّحة بـ «السوبر وطنية». غاب عنصر الإدهاش في معظم النصوص في هذا الكتاب، لنبقى أمام محاولات أدبية (في أفضل الأحوال) لأسماء مكرّرة منذ أيام اتحاد الكتّاب العرب، مروراً برابطة الكتّاب السوريّين (الأحرار)، وصولاً إلى أي نشاط ثقافي برعاية جلالة الـ «إن جي أوز».
لا تختلف الحال كثيراً عند تناول النصوص النظرية. لن نجد ورقةً أصيلة بالمعنى الأكاديمي الصارم. المشاركات تتأرجح بين الارتجال أو المقالات اليومية «الممطوطة»، عدا اعتمادها على معلومات مغلوطة كُرّست في هذا الكتاب بكونها وقائع فعلية. العسكرة ــ بحسب مقدّمة الكتاب ــ بدأت في صيف 2012، بينما هي بدأت فعلياً في خريف 2011، إلا إذا كان المشرفون على الكتاب (مموّلين ومعدّين) يعتبرون مرحلة «الجيش الحر» مرحلة سلمية لا عسكرية، وبأن العسكرة بدأت مع توضّح حضور الجهاديّة التكفيرية. وكذلك، عند تناول قضيّة الطائفية (في ورقة حسان عباس بشكل خاص)، ثمة منهجيّة واضحة في «تجهيل المعارضة وتعريف النظام»، أي نسب الطائفية إلى النظام وميليشياته، مع ترك الطرف الآخر مجهولاً عند الحديث عن المجازر الطائفية (لا نجد فاعلاً معروفاً لها)، أو الإصرار على أن تكريس الطائفية «يجد جذره في مراكز غريبة عن البلد»، ليصبح «حزب الله والميليشيات الإيرانية والعراقية والنظام» الأطراف المعلومة الوحيدة في المعادلة الطائفية المتفجّرة، بينما الطرف الآخر ينحصر في قناتي «صفا» و«العربية».
لم يلتزم كتاب «سوريا تتحدث» مهمته الأولى المطلوبة، أي أن يكون كتاباً توثيقياً حيادياً، بل حاول تكريس «شللية» جديدة لا تختلف كثيراً عن «الشللية» البعثية السابقة من حيث التركيب، لكنها في المضمون، أكثر خطورة لأنها تستند إلى «صكوك غفران ثورية»، عدا محاولتها رسم مشهد ثقافي سوري بمعايير التمويل. كل شيء ممكن بالتمويل، حتى أنه يجعل علي فرزات في هذا الكتاب يتغنّى بـ «مهد كل الثقافات في العالم. إنها الوطن للجميع قبل أي وطن آخر».