لا يمكن عزل أعمال ميشيل خليفي (1950) عن سياقها الزمني، وتطوّرات قضيّة وطن وشعب. في شريطه الروائي «حكاية الجواهر الثلاث» (1994ـــ 106 د) الذي يستعيده «مترو المدينة» الليلة، استمدّ السينمائي الفلسطيني الأمل من السنوات الستّ للانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987. في غزّة آخر أعوام الانتفاضة، يبدو الفلسطيني حيّاً وبهيّاً رغم كل معاناته، سواءٌ أكان ابن المخيّم أم من أثرياء المدينة. لا أهميّة لهذه الفروق، أو لا وقت لتحليلها الآن في مواجهة المحتل. انتصر ابن الناصرة لقضيّة وطنه، من خلال سينما مغايرة تحمل طرحاً إنسانياً وفنيّاً صرفاً. كالمعتاد، لا مكان للشعارات الكبيرة كما أيّام «سينما الثورة الفلسطينيّة» المتخمة بالدعائية والمباشرة.
للرجل فضل في التأسيس لسينما فلسطينيّة جديدة، مغايرة وأصيلة من قلب الأرض المحتلّة، من خلال باكورته الوثائقيّة «الذاكرة الخصبة» (صور من مذكرات خصبة ـ 1980 ـ 100 د)، ثمّ الروائية «عرس في الجليل» (1987 ـ 112 د). أما في «حكاية الجواهر الثلاث»، فيعيش يوسف الصغير مع أمّ وأخت تنتظران أباً في سجون الاحتلال، وأخاً متوارياً مع الفدائيين. يوسف المولع بصيد الطيور، يأخذ الطعام للفدائيين. يجول غزة من البحر إلى المدينة، وصولاً إلى الأطراف. يتعرّف إلى الغجريّة الصغيرة «عايدة» ويقع في حبّها. لا يتأخر في إبداء رغبته في الزواج بها، فتطلب مهراً غريباً. ثلاث جواهر مفقودة في أميركا الجنوبيّة تعود لعقد جدّة أبيها. هذه الحكاية الغريبة تتطلّب بنية سردية جديدة يقترحها خليفي على الفيلم الفلسطيني عموماً. يستعين بالأسطورة والذاكرة الحيّة التي تنقلها شفاه المسنّين ويتّكئ على إرث شخصي متعلّق بالخرافة. كان الكبار في الناصرة يحذّرونه من دخول المغارة حتى لا يزعج الأموات المرتاحين هناك. ذاكرة المكان حاضرة أيضاً كما فعل في تسجيلي «معلول تحتفل بدمارها» (1985ــ 35 د). كلّها عناصر تتضافر مع موروث «ألف ليلة وليلة» لصناعة حكاية تعطي الحق في الحلم والمستقبل. المزج الغريب، والعسير أحياناً، بين الواقع والحلم، الحقيقة والفانتازيا، الشخصيات الفريدة (يوسف وعايدة والشيخ الضرير) والنمطيّة (الأم والفدائي)، يتوّجُه خليفي في كشف بسيط وعميق معاً. الجواهر الثلاث في يافا لا في أميركا الجنوبيّة التي يحاول يوسف السفر إليها. إسقاط واضح يقول بأنّ فلسطين لا تكتمل من دون مدنها/ جواهرها المفقودة، بما في ذلك أراضي 1948. هناك، حيث ولد خليفي، عاش تحت إمرة الحاكم العسكري وسنوات طويلة من حظر التجوال. هكذا، يحمل الشريط جرعة عالية من الترميز. يسبر تنوّعاً جغرافياً وبشرياً من خلال يوسف الحلم.

لطالما اعتبر خليفي الذكوريّة
عنصراً أساسياً من عناصر الهزيمة

في كتابه «ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة» (دار المدى ــ 2005)، يوثّق الناقد السينمائي الفلسطيني بشار إبراهيم جزءاً كبيراً من فيلموغرافيا خليفي. أثناء فترة الدراسة في المعهد، أنجز فيلماً بعنوان «الحدود» (1975). بعد التخرّج، أخرج أربعة أفلام تسجيليّة للتلفزيون البلجيكي عام 1978 (بالاشتراك مع أندريه دارتوفيل)، هي: «الضفة الغربية، الأمل الفلسطيني» (58 د)، و«المستوطنات الإسرائيلية في سيناء» (50 د)، و«الأشرفية» (58 د) الذي حاز الجائزة الكبرى لأفلام التلفزيون الوثائقية الناطقة بالفرنسية سنة 1979، و«الفلسطينيون والسلام» (54 د). بعد عامين، قدّم باكورته المهمّة «الذاكرة الخصبة» (صور من مذكرات خصبة ـ 1980 ـ 100 د). دوكودراما عن سيدتين فلسطينيتين هما «رومية حاطوم» (خالة خليفي) والروائية المعروفة سحر خليفة، تناضلان من أجل حريّة الأرض والمرأة من الداخل الفلسطيني. حاز الشريط جائزة أفضل فيلم أول لمخرجه من «مهرجان قرطاج السينمائي» (1980)، وعُرِض في تظاهرة «أسبوع النقاد» في «مهرجان كان» كأوّل فيلم فلسطيني. وفي تسجيلي «طريق النعيم» (1981 ـ 54 د)، انطلق (بالاشتراك مع أندريه دارتوفيل مجدداً) من عمليّة اغتيال المناضل نعيم خضر، مدير مكتب «منظمة التحرير الفلسطينية» في بروكسل، لطرح أسئلة عن النضال والموت والعودة إلى أرض الوطن. وبعد سنوات، قدّم فيلمه الروائي الأوّل الذي سيكون معلماً مهماً في السينما الفلسطينية الجديدة: «عرس الجليل» (1987 ـ 112 د) مانفيستو صارخ عن الوجود الفلسطيني والحضور الأصيل للهويّة والذاكرة. بعد إنجاز الفيلم، رفض خليفي عرضاً بتقديمه باسم إسرائيل، مقابل فرش الطريق نحو «الأوسكار». مع ذلك، حقق حضوراً دولياً لافتاً. نال «التانيت الذهبي» في «قرطاج» عام 1988، وعرض في تظاهرة «أسبوعا المخرجين»، وحاز «جائزة النقاد الدولية» في «كان» (1987). اتفاق أوسلو عام 1993 شكّل صدمةً لخليفي، ما تطلّب وقتاً للتحليل وتجديد الخطاب السينمائي. صام خليفي عن العمل الميداني، إلى أن عاد مع السينمائي الإسرائيلي المناهض للصهيونية إيال سيفان في التسجيلي المثير للجدل «الطريق 181» (2003 ـ 270 د)، الذي يأخذنا في رحلة بريّة على طول الحدود التي رسمها القرار 181 الصادر عن «الأمم المتحدّة» عام 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين. أخيراً، عاد خليفي بروائي «زنديق» (2009 ـ 85 د) الذي يستحضر فيه ذاته وذاكرته أمام الكاميرا. العمل عن مخرج فلسطيني يعود من أوروبا إلى مسقط رأسه لتصوير فيلم يوثّق للنكبة. 24 ساعة من المواقف والأحداث والسينما البسيطة، تفجّر مواجهات مع الذات والآخر والإرث والهويّة منحته جائزة «المهر العربي» في «مهرجان دبي السينمائي» (2009).



«حكاية الجواهر الثلاث»: 18:30 مساء اليوم ــــ «مترو المدينة» (الحمرا ـــ بيروت). للاستعلام: 76/309363