القاهرة | إنّه أحد فرسان الخمسينيات في حركة الفن التشكيلي المصرية. حسن سليمان (17 سبتمبر 1928 ـــ 18 أغسطس 2008) الذي تمر ذكرى ولادته غداً، ألهمه فان غوغ بحس انفعالي للحياة، قبل أن يكسبه الرسامون الواقعيون الجدد الإيطاليون والفرنسيون ذوقاً فنياً خاصاً في تكتيل اللوحة وتشكيل عجينة اللون. استطاع سليمان أن يجعل الفقر تميمة خاصة في بناء عمله الفني في منطقة عرب المحمدي، أشدّ بقع مصر فقراً. جعلها مرآة للواقع، نفخ فيها من صورته وألوانه، وجعل الألم يصرخ في تقاطيع اللوحة.كان ينظر إلى كل ما هو فلسفي، يشغله الجوهر أكثر من خربشات السطح. يُنظر إليه باعتباره تنويرياً فنياً، يرفض الصلابة والتحجر ويتطلع إلى الديناميكية والتجديد. لنشأته في حي «طه السيوفي» الذي فاض بالأجانب من جنسيات مختلفة، أثر كبير في تكوينه الثقافي، فقد ألم باللغات الأجنبية ودرس الإنكليزية وأتقن الفرنسية.

انطلق سليمان من «كلية الفنون الجميلة» في «جامعة القاهرة» عام 1951. تخرج في تلك الفترة الفنان حامد ندا قبل أن يتخرج قبله بعام الفنان عبد الهادي الجزار.
في مرحلة الستينيات، كتب سليمان كتابه «حرية الفنان» الذي حاول من خلاله تسطير المضامين الفنية لإنجيل المتمردين... وثيقة أشبه بالإرشادات الجمالية للخروج على النمطي والسائد. كان ببساطة يُلخص السخط والتمرد. ولأنه الفنان الملم بمجريات الأمور الفنية، فقد أصدر كتابه التالي «كيف تقرأ لوحة»، ثم أتبعه بـ»ذلك الجانب الآخر». عشق سليمان المسرح، منحه من دمه، ونقط عليه من ألوانه. قدّم ديكوراً مصرياً لمسرحية «أهل الكهف» للمبدع توفيق الحكيم على المسرح القومي في الستينيات. عشق الطبيعة الصامتة. يقول عن معرضه «طبيعة صامتة» («الهناجر» ــ أكتوبر 1998): «هو محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على جانب من ممارستي الطويلة. في تجربتي هذه، كنت في كل مرة أرسم الشيء الذي أمامي، أجدني أمسكت بشيء وفقدت شيئاً آخر». تتجلى الطبيعة الصامتة عند سليمان في علاقة التحقق والاستلاب. كلما أدركت الوصول، فقدت نقطة البداية، وتعثرت في الضوء من جديد.
على الجانب الآخر، أدرك سليمان أهمية البحر، منحه من فيضه. هو يرى البحر عارياً كأفروديت، تنكسر عليه خطوط الضوء بحدّة حيناً، وبانسجام أحياناً كصحراء تطل عليها سماء صافية. هكذا تتوالد من البحر المتناقضات التي تناولها سليمان في مزيج أقرب إلى الغموض والشحوب.

قدّس المرأة
في الأحياء الشعبية لا الأرستقراطية

اكتسب عالمه ألقاً خاصاً من المفردات التي شكلّت حياته بداية من الشرفة الصغيرة ذات الأعمدة الحديدية المطلية باللون الأسود، إلى الكرسي الخشبي الهزاز الذي يتوسط الغرفة. ظلّ أسيراً للموديلات النسائية التي رسمها. لكن رؤيته للموديل العاري لم تكن سطحية. الجسد هنا مجرد أداة. الاهتمام هنا بالفكرة حيث الجسد الأنثوي أيقونة مقدسة نحو الكمال. وصف المفكر سلامة موسى لوحاته بأنّها مليئة بالدم والعرق والدموع، تنحو نحو المعتقد الشعبي. سليمان يميل إلى تقديس المرأة المصرية في الأحياء الشعبية لا الأرستقراطية. طغت ثورته كفنان على كل شيء. في الستينيات، منح شكلاً جديداً متميزاً لمجلة «الكاتب» حيث قدم زاوية ثابتة عن ماهية الألوان وعلاقتها ببعضها بعضاً لأكثر من عشر سنوات، بالإضافة إلى الشعر والنحت والرسم. ترجم لمجموعة من الشعراء أبرزهم لامارتين وجاك بريفير وأراغون وبودلير. لم تقتصر مساهماته على ذلك، بل أضاف إلى الكادر السينمائي. تخرجت على يده مجموعة من السينمائيين المتميزين أمثال داود عبد السيد وخيري بشارة ومحمد خان. كانت ثقافته تجمع بين الماركسية والوجودية، بالإضافة إلى حبه لشكسبير وأحمد شوقي.
كانت لديه تقنية خاصة حاول تطويرها وتطويعها طوال الوقت. كان فنه بنائياً، فقد كان يخطط اللوحة بعناية شديدة باستخدام قلم الفحم. يمسح ويترك آثار الخطوط الفحم كخريطة ومسار فعلي لخريطة الضوء والظل. للفنان قدرة خاصة على الاحتفاء بمفردات الطبيعة وعناصرها. سليمان كان من عشاق الطير، ولشدة حبه له، كتب نصاً حزيناً عن بطة. كان يدهشه الطير والحيوان ونفايات الطرق. ربما رأى في الطير مفتاحاً للوصول إلى مغارات العالم القديم. قضى سليمان ستين عاماً في العطاء الفني أثرى خلالها الحياة الفنية والأدبية. أعمال وجدت طريقها إلى «متحف الفن الحديث» في القاهرة والإسكندرية، وعرضت في روما عام 1966 إلى جوار أعمال هنري ماتيس وبيكاسو.