نكاد لا نجد شيئاً أصلياً أو أصيلاً في معرض خالد تكريتي (1964) الذي افتُتح أخيراً في «غاليري أيام» تحت عنوان «لول». هذا لا يعني الاستنتاج فوراً أنّ المعرض غير جيد أو أنه يحتوي على أعمال ركيكة وغير لافتة، لكن الرسام السوري الذي درس الهندسة المعمارية في دمشق، والمقيم حالياً في باريس، قطع علاقته مبكراً بما يمكن أن نسميه اللوحة السورية أو المحترف السوري الذي بدأ يتلقى انقطاعات مماثلة في السنوات الأخيرة.
قطعٌ لم يحدث دفعة واحدة، ولكن بجرعات هائلة. ما هو أصلي وأصيل تعرّض لتعديلات مهمة في معارض تكريتي الأولى، وتمّ نسفه بشكل كامل تقريباً في أعمال لاحقة، ثم عادت بعض مذاقاته وروائحه كي تطلّ في أعمال أحدث مزج فيها النوستالجيا الشخصية مع مشهديات من السيرة الذاتية والعائلية. بطريقة ما، بدت تجربة تكريتي مشدودة إلى هوية راسخة، لكنها لم تعد جذابة بالنسبة إليه، وبات صعباً أن تُحسب أعماله على كثافتها الايديولوجية، ومكوناتها المحلية الصارخة والمتكررة، وشعريّاتها المستتبّة مع جذورها وعناصرها الأولى. لا نقول هنا إنّ اللوحة السورية هي لوحة واحدة، إلا أننا نختزل ذلك إجرائياً كي نفسر المسافة التي تفصل ما يرسمه خالد تكريتي (وعددٌ من مجايليه ومن الرسامين الشبان الذين جاؤوا بعدهم) عن هوية المحترف السوري وسياقاته الأساسية. هناك خفة وطلاقة في لوحات معرضه الحالي. صفتان تقويان التحاقه بما يحدث في سوق الفن المعاصر، وتشتغلان في الوقت نفسه ضد هوية أصلية أو ما يسميه الفنان نفسه My heritage، بحسب عنوان ساخر لإحدى لوحاته. التراث حاضر بنسب متفاوتة في معرضه، وفي معارض سابقة أيضاً. حضورٌ ممرّغ ومُهان بسخرية خفيفة أحياناً، أو ممتدح بحنين خجول إلى تواريخ شخصية وعائلية قديمة. هناك ثقافة معاصرة ومستقبلية تتدخّل في إنجاز ما نراه، حيث يمكن بسهولة اقتفاء آثار وعلامات هذه المعاصرة الذاهبة إلى المستقبل، كما في لوحة Blow Dry التي تُظهر امرأة جالسة تحت خوذة سيشوار البخار وبين يديها مجلة تتوفر عادةً في صالونات الحلاقة والتجميل، ولكن جسد المرأة ووجهها غائبان وممحوّان كدلالة على طغيان الهوس الجمالي الشكلاني.

جسد المرأة ووجهها غائبان وممحوّان كدلالة على طغيان الهوس الجمالي الشكلاني
ونرى إشارات موازية ومتداخلة في لوحة 220Volts التي تتكوم فيها أدوات الكترونية وكهربائية باتت قديمة مقارنة بالنسخ الرقمية الحديثة منها، وفي لوحة Bang - Bang التي تصوّر سيارة يعتليها مسلحان لاهيان، وفي زاوية اللوحة يدٌ تدير اللعبة على جهاز «بلاي ستيشن»، بينما تظهر سخرية مألوفة من ثقافة الريجيم والبدانة في لوحتي: I am Hungry، وI have lost 5 kg. مشاهدة الفنان نفسه أو ملامحه في بعض اللوحات، تعزّز الخفة والطلاقة واللهو فيها، وتحول مسألة الرسم كلها إلى لعبة تقترب من المجانية، وخصوصاً أنها تتجاهل أي ميوعة عاطفية أو تعبيرات تقليدية تنتمي إلى آلام وجروح الواقع. الواقع حاضر، لكن بثقافته المعولمة والمسرعة والخالية من التأملات البطيئة والناجية من معاينة التصدعات والشقوق التي تُحدثها هذه العولمة نفسها في الهويات الجمعية والفردية. كأن الرسام السوري انتقل إلى الجانب الآخر، وحصل على انتماء ما وإن كان رجراجاً وقلقاً، لكنه ممتنٌ لهذا الانتماء الخفيف الذي يصنع له صلة معاصرة ودارجة مع أقرانٍ من جنسيات مختلفة انتقلوا مثله إلى فضاء الفنون المعاصرة من دون أن تنزف هوياتهم الأصلية. ربما كان هذا التوصيف قاسياً، ولا بدّ من أن نقاط دمٍ قد نزفت من هذه الهويات، لكن الانتقال «السعيد» إلى «جنة» المعاصرة يتكفل برأب مواضع النزف واندمالها.
لا يمكن الكتابة عن معرض خالد تكريتي وتجربته عموماً من دون وضعه داخل هذا السياق الذي بدأت تصنعه الغاليريات والمعارض الكبرى في الشرق الأوسط، حيث يتم تسويق هذه الأعمال في المنطقة والخارج. هذه ليست تهمة جاهزة بقدر ما هي توصيف لما يمكنه أن يوّحد الممارسات الفنية لأجيال كاملة بحجة التسويق والمعاصرة. وهذا يُعيدنا إلى غياب أو ضآلة حضور الهوية المحلية في أعمال تكريتي، ولعلنا لا نبالغ إن سمينا ذلك طرداً لهذه الهوية وهروباً منها أيضاً. الخفة التي نراها في المعرض موزعة على كل اللوحات التي يمكن ردّها فوراً إلى مرجعيات أميركية سادت أسماء روادها في النصف الثاني من القرن الماضي. يكاد أندي وارهول يبتسم لنا في أغلب الأعمال المعروضة. ويكاد ما نراه أن يكون نسخاً منقحة ومزيدة وممسوخة من أطروحات المعلم الأميركي الذي «أفسد» فن الرسم. ممارسات البوب آرت والكيتش واللايف ستايل التي صدمت العالم في زمنها، مُستثمرة بذكاء في أعمال تكريتي (وأقرانه أيضاً). الزمن يلعب لصالحه في التقنية واللون والطباعة والغرافيك، ولكن لوحته موجودة في الماضي القريب لفنون الغرب المعاصرة. إنها مجلوبة (كي لا نقول مستوردة) من هناك، وقد أضيفت إليها شذرات وشحنات شخصية تؤمّن لها إقامة محلية مريحة ومدعومة بحفاوة مهيبة وعالية لا يمكن أن تُسمع فيها صيحة ذلك الطفل الذي قال: «ولكن الإمبراطور عارٍ» في قصة هانس كريستيان أندرسون «ثياب الإمبراطور الجديدة» التي احتال فيها رجلان على الحاكم بخياطة ثياب من قماش عجيب يتصف بأنّ الأغبياء لا يرونه.



«خالد تكريتي: لول»: حتى 24 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ «غاليري أيام» (سوليرير، شارع زيتونة). للاستعلام: 01/374450