رحل جو سامبل (1939 ـ 2014) نهار الجمعة الفائت بعد صراع مع سرطان الرئة الذي لم يبعده لوقت طويل عن دائرة الضوء. لهذا السبب، أتى موته مفاجئاً. عندما جاء إلى بيروت عام 2010، كان بكامل عافيته ونشاطه. لم يبدُ على وجهه وهمّته ثقل سبعة عقود ونيّف إطلاقاً. أضف إلى ذلك أنّ حفلاته حول العالم لم تتوقف لوقت طويل. آخر تسجيل مصوّر له يعود إلى السنة الماضية حين شارك في «مهرجان مونترو للجاز».الاثنين الماضي، أوردنا خبراً مختصراً عن رحيل سامبل. لم يكن أكثر من إعلان حدث مهم في الحياة الموسيقية، على طريقة «أورونيوز» المختصرة المفيدة. نعود اليوم إلى الحدث ذاته مع بعض التفاصيل. لماذا؟ ما الذي سنقدّمه في زمن يمكن لأي كان الاطلاع على أطنان من المعلومات عن حياة الرجل وموسيقاه وغيرهما من التفاصيل المتوافرة على الانترنت؟

لمن نكتب اليوم؟ طبعاً ليس لجو سامبل كي يعرف مدى أهميته بالنسبة إلينا، ولا لأقربائه أو أصدقائه، فهُم قد يبلغون المريخ قبل الوصول إلى جريدة عربية وفَهْم ما كُتِبَ فيها. حسناً. نحن نكتب اليوم لمجرد الكتابة. ونكتب تحديداً بشكل مفصّل أيضاً لمجرّد التفصيل. الخبر، كمعلومة، أوردناه مطلع الأسبوع. لكننا نعود اليوم إلى الموضوع نفسه بشكل موسّع لسبب وحيد ذي علاقة بنفسية المرء المعاصر الذي فقد الفضول والشغف والرغبة في الاطلاع والتقييم. معظم الناس اليوم (بالأخص الشباب) يستنفرون اهتمامهم بأي شيء نسبةً إلى المساحة المعطاة لهذا الشيء في الإعلام. مثلاً، خبر عن موزار لا يتعدى 15 ثانية، يعني أنّ هذه «الجيفة الموسيقية المتعفنة» لا تستأهل مساحة كبيرة من اهتماماتنا، في حين نجنّد كل إمكاناتنا لمتابعة أخبار فلانة (وصولاً إلى ماذا ارتدت، أين أمضت عطلتها، هل هي حامل أم لا...). إذاً نحن، بصراحة، نكتب لنملأ صفحة كبيرة، لنبهر القارئ بالمساحة التي نعطيها، كوسيلة إعلامية، لرجل رحل قبل أسبوع، ولندفعه إلى اعتبار الموضوع غاية في الأهمية، وإلى القول إنّ الراحل شخصية مهمة على ما يبدو ولا يجوز إغفال الموضوع. بالمناسبة، وسائل الإعلام، ونحن منها ومثلها، تتأثر أيضاً بهذه اللعبة.
جو سامبل. إنه عازف البيانو والمؤلف الموسيقي العظيم الذي عايش العصر الذهبي للتيارات الموسيقية الأميركية السوداء وكان من روّاد بعضها. والأهم أنه ظل أميناً لها ولتركة رموزها الكبار، مدركاً ضرورة العمل المستمر في الإبداع والعطاء والتطوير وعدم ارتكاب أخطاء يفرضها العصر الاستهلاكي. سامبل موسيقي كبير، لكنه أيضاً إنسان استثنائي بتواضعه المحرِج وصدقه البادي على ملامحه كما في أعماله. بدأ مسيرته الفنية من الجاز وتياراته الحديثة آنذاك، فأسس مطلع الستينيات فرقته الشهيرة The Jazz Crusaders قبل أن يتغير الاسم ليصبح The Crusaders مع ميول سامبل وزملائه إلى التركيز على الفانك والسول (وغيرهما من الأنماط «الصديقة» ومنها الجاز) مطلع السبعينيات. مع «الصليبيين»، أنجز تسجيلات عدة. ثم استقل بتجربته، علماً أنه عاد وانضم إليها لتسجيل ألبوم عام 2003 وللمشاركة في «مهرجان مونترو» لتقديم حفلة رائعة (صدرت بالصوت والصورة) شارك فيها عازف الغيتار البارع راي باركر جونير، بالإضافة إلى الشريكة الأساسية، صاحبة أجمل الأصوات التي عمل معها سامبل، راندي كروفرد (شاركت معه في حفلته في «مهرجان الجاز في بيروت» عام 2010).
وظّف أجمل
ما عنده من خبرة فنية في ألبومين مع
راندي كروفرد


في مسيرته الخاصة، أصدر جو سامبل ألبومات كثيرة، فأشرك في واحدة (عام 1999) المغنية السمراء لالا هاذواي (ابنة رمز موسيقى السول الذي رحل باكراً جداً دوني هاذواي)، قبل أن يوظف أجمل ما عنده من خبرة فنية في ألبومين مع راندي كروفرد، التي سبق أن غنت Street Life أيام «الكروسايدرز». الألبومان بعنوان Feeling Good و No Regrets، وفيهما غنت كروفرد أجمل ما أبدع صديقها تأليفاً وعزفاً، بالإضافة إلى كلاسيكيات من الريبرتوار، تمت مقاربة بعضها بأسلوب ممتاز بما لا يقارن بالنسخة الأصلية.
عام 1997، فاجأ سامبل الجمهور بألبوم أكد فيه شغفه بالعمل وبيّن مدى حجم ضميره المهني. فقد أصدر ألبوم Sample This الذي يوحي، من عنوانه كما من الأعمال الواردة فيه (صادرة في ألبومات سابقة)، بأنه عبارة عن باقة من أجمل قديمه، موضّبَة في أسطوانة واحدة، أي ما يعرف بالـBest Of. لكن الهدية كانت كبيرة لمحبيه: جمع الرجل شلة من كبار الموسيقيين (على رأسهم ماركوس ميلر وجورج دوك الذي تولى الإعداد الموسيقي مع سامبل) وأعاد تسجيل مقطوعات وأغنيات من تلك التي لاقت رواجاً كبيراً في السابق.
رحل جو سامبل لتنضم ظلال روحه إلى تلك التي مجّد أصاحبها في أغنيته: كولتريان، ساتشمو (لويس أرمسترونغ)، جيلي رول وفاتس وولر الذي يُنقل عنه قوله في تلك الأغنية: Music’s real, the rest is seeming.