في الوقت الذي كنّا نستعدّ فيه لرثاء الموسيقي الكبير جو سامبل الذي أرداه المرض الخبيث قبل بضعة أيام، ها هو المرض ذاته يخطف منّا الفنان مخول قاصوف (1949 ــ 2014). إنه الملحن وعازف الغيتار والشاعر الذي يمكن اعتباره رائد الأغنية الملتزمة والمقاوِمة في لبنان، إذا استثنينا فيروز والأخوين رحباني وروائعهم التي تناولت القضية الفلسطينية،. قاصوف مولود في قرية الخنشارة (المتن/ جبل لبنان) التي اشتهرت بإنجاب شخصيات يسارية مناضلة ونظيفة، مثل أستاذنا الراحل جوزيف سماحة.
في بداياته، كانت لقاصوف تجربة فنية غربية مراهِقة تمثلت في تأسيس فرقة تؤدي أعمال الفرق التي طبعت مطلع الستينيات (الـ«بيتلز» مثلاً) قبل أن تحل النكسة وتأخذ الرجل إلى خيار النضال وتولّد عنده وعياً سياسياً سيتخطى لاحقاً الصراع العربي الإسرائيلي والأغنية السياسية والوطنية المباشرة، ليشمل الفن الملتزم بمعناه الواسع. في تلك الفترة وحتى مطلع الحرب الأهلية اللبنانية، عمل قاصوف على الأغنية المقاومة في سبيل مجتمع أفضل، مثأثراً بيساريي الأغنية الفرنسية والثورة الطلابية (1968). لم يهتم بالنص السياسي المباشر أو الوطني الفضفاض، بل بالشعر المقاوم، والأهم، بالكلمة الناقدة التي ترصد تفاصيل أصغر بكثير، بالشكل، من المشروع الصهيوني في المنطقة، لكن قد تكون أحياناً مؤذية أكثر منه لأنها تضرب الأسس التي تقوم عليها أي مقاومة لأي احتلال.
لم يهتمّ بالنص السياسي بل بالشعر المقاوم


قبيل الحرب الأهلية، قام مخول قاصوف بجولات أحيا خلالها حفلات في المخيمات والجامعات. ثم أصدر أشرطة عدة خلال الحرب، حوت ألحانه وشعره. تعاون مع سامي حواط ويحيى الداده وغيرهما في الغناء، ومع الشاعر الكبير طلال حيدر (أغنية «بدوية/ ركوة عرب») وكذلك مع زياد الرحباني الذي وزّع أهم أغنية كتبها قاصوف على الإطلاق بعنوان «مثقفون نون». في هذه الأغنية ينقضّ بدون خجل على مثقفي المقاهي البيروتية (مات هو وهم «صامدون») الذين تأتي من عفنهم وفلسفاتهم وعقدهم كل العلل التي يدعون النضال الفكري من أجل معالجتها. تعود هذه الأغنية إلى عام 1973، وصدرت أول مرة عام 1986 ويشارك فيها الرحباني عزفاً على البيانو، في حين يؤديها قاصوف متماهياً مع أسلوب الغناء الأفرو- أميركي.
بعد عام 1975، تفرغ مخول قاصوف لمهنته، إذ تخرج في تلك السنة في كلية طب الأسنان. لكنه أبقى على إنتاج فني وأدبي متقطع في الثمانينيات، فأصدر مجموعتين شعريتين بعنوان ”حروف على ورق النورس“ (1982) و”مغارة الحلم“ (1985) وشريط ”بواب الفرح“ (1986). غنى مواضيع مختلفة، فكتب ولحن على غيتاره مجموعة من الأعمال، جمعها لاحقاً في ألبوم ”مثقفون نون“ (في التسعينيات)، الذي اهتم ”نادي لكل الناس“ بإعادة طباعته وتوزيعه أخيراً (حوى أغنيتين إضافيتين)، ما أعاد صاحبه إلى المسرح لتقديم أمسية أرادها القدر وداعية. قاصوف رومانسي وعاشق أحياناً (”عيونِك“، ”نزّلي جفونِك“، ”بدوية/ ركوة عرب“)، وأحياناً أخرى متهكم (”مثقفون نون“) أو متمرد إن دعت الحاجة (”فاتحة العصيان“). قارب الحرب الأهلية (”شبعنا بقى“) والطبقية (”معلّم طرطور“) وأغنيته في مسألة التربية على الطريقة اللبنانية (”بدنا ولاد“) سبقت بسنوات المقاربة التي قدمها أسامة الرحباني في ”قصتنا بهالمجتمع“ وتانيا صالح في ”بلا ما نسمّيه“.


* يصلّى على جثمانه عند الرابعة من بعد ظهر غدٍ الجمعة في «كاتدرائية النبي إلياس» (الخنشارة/ المتن الشمالي) وتقبل التعازي قبل الدفن وبعده ويومي السبت والأحد المقبلين، بين الـ 11 صباحاً والـ 6 مساءً في صالون الكاتدرائية.