تختصر رضوى عاشور (1946) سنوات شديدة التأثير في كتابها الجديد «أثقل من رضوى» (دار الشروق). الكاتبة المصرية تتناول مقاطع من «سيرتها» كما لو أنها تُكمل ما بدأته في روايتها/ السيرة «أيام طالبة مصرية في أميركا». أسئلةٌ كثيرة تواجه القارئ في الصفحات الأولى لكتاب يفترض منذ بداياته أن يكون «عاصفاً» على عادة صاحبة «ثلاثية غرناطة»، فالقصة بحسب كلامها في الرواية: «الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي ما دامت قابلةً لأن تروى».
وهي بحرفية كلامها تقرّ بأن «إبداع نص فني من أعقد اختراعات البشر وأكثرها عجباً، لأنها تنقل أحمالاً متراكمة على بساط هش من الحروف والكلمات»، فالكتابة حتى وإن كانت عن «حقيقة» ما تجعلها أقرب إلى نوعٍ من التخلي عن ذكرياتٍ لتحميلها على الورق. إنها لحظةٌ المعاناة التي تتمثّل بذاتها عند كل كتّاب السيرة الذاتية في نقطةٍ ما: هل أفضح كل هذا؟ أم أسكت وأمرر الأشياء بعيداً، وأخفيها في الذاكرة؟ أي الحلّين اختارت رضوى؟ سؤال يبقى برسم قارئ السيرة ذاته، فهو قد يعتقد في لحظةٍ ما أنها أكملت رسالتها وليس هناك ما تخفيه البتة، لكنّ قارئاً آخر –أكثر عناداً- قد يجدها «حائكةً» ماهرة في اخفاء «قطب» الجراحة عن روحها في الرواية. تكتب عاشور عن المعيوش اليومي، بلغة الحي الذي يريد الحياة ويحبّها «لأن هذه المرأة وأعني رضوى، ما أن تجد الشارع خالياً نسبياً، حتى تروح تركل أي حجر صغير تصادفه بقدمها اليمنى، المرة بعد المرة في محاولة لتوصيله إلى أبعد نقطة ممكنة». هكذا هي رضوى عاشور كما ترى نفسها، ليست المرأة «المسنة» التي يتوقعها أي مشاهدٍ لشعرها القصير الأبيض. إنها سيرة حياتها، وهي حرةٌ –إلى حدٍ ما- في مزج الواقع والذكريات بالكثير من التواريخ الخاصة والعامة معاً.
تخرج البطلة من غرفة العمليات لتجد ثورةً في تونس تحرق الأخضر واليابس، تميم (ابنها الشاعر تميم البرغوثي) سيخبرها بالأمر مقتضباً خوفاً على صحّتها. تستذكر صورة الرجل التونسي الستيني صاحب مقولة «هرمنا» وتقارنه بنفسها، هي أيضاً «هرمت» لأجل هذه اللحظة. لحقت مصر أيضاً بركب الثورة، بسرعةٍ ما تتسرب الفكرة إلينا عبر الكاتبة. تعطينا أحياناً رؤيتها لكيفية حصول الحدث. تتذكر أنها تتحدث مع القارئ مباشرة فتعتذر بخفر.
تستذكر صورة الرجل التونسي الستيني صاحب مقولة «هرمنا»

تمارس حنكة الكتابة وحرفتها بألق، تقول الشيء وتعتذر لتتركه بين يدي القارئ، يستفيد منه، أو لا يفعل. هي لم تفكر للحظةٍ واحدة في «تفاعل» الأحداث سريعاً بهذه الوتيرة المرتفعة: «الوزير الذي أصبح بين ليلةٍ وضحاها «الوزير السابق» ثم الوزير «الأسبق»، ولا في رئيس الجامعة الذي لم يكن حصل بعد على أي من اللقبين. تنجرف عاشور في غمار الثورة المغمّسة بالذكريات، فتحكي عن أحمد الشحّات الشاب الذي أنزل العلم الصهيوني عن السفارة الصهيونية في القاهرة بفخرٍ كبير، وتجاوره مع شخصيةٍ أخرى أحبتها بذات الفخر وهي الدكتور شعبان مكاوي «الفلاح الجميل الذي قطع الطريق بسرعةٍ خاطفةً من بلدته الصغيرة منشية النور إلى الجامعة». يعود ويرحل بالفخر والسرعة نفسيهما بعد صراعٍ مع مرض في الكبد. تغوص أكثر: من يحكمون مصر وسيحكمونها لن يكونوا كالملك فاروق، «ليسوا كالملك» البدين الذي بدا كما لو أنه «شخصية شرير كرتونية»، فهؤلاء لن يتركوا الحكم إلا «بدمٍ كثير». تعود للغوص أكثر في ذكرياتها الخاصة/ السياسية: «إنه رحيل د. علاء فايز أول رئيس منتخب لجامعة عين شمس (حيث تترأس هي قسم اللغة الإنكليزية وآدابها وتدرّس)، ورحيل كثير من طلاب الجامعة نفسها شهداء في سبيل «حرية مصر». تستقبل تلميذتها نوارة نجم (المناضلة المصرية وابنة الشاعر أحمد فؤاد نجم) لحظة نجاتها من مجزرة العباسية. تحاول بكل جهدٍ ابعاد عقل الفتاة عما حدث ويحدث، لتعود وتعتذر بعد عودة الفتاة إلى بيتها: «آسفة يا نوارة! أي حماقةٍ هذه يا رضوى، تحاولين صرف انتباه ناجية من المجزرة بعد ساعتين من حدوثها؟».
يبدو أسلوب رضوى عاشور في الكتابة شجياً وحميماً، لكن منطقها مباشر. إنها تروي حكايتها هي وليست محتاجة لمحاباة أحد. تسمي الأشياء بمسمياتها، كما الأشخاص. بصيغة المتكلّم، تتماهى مع الحدث بشكلٍ مباشر وتتعامل مع القارئ كما لو أنّها تحدثه، ولذلك نجدها في كثيرٍ من الأحيان تغيّر فكرتها، تحدِّثها وتصحّحها. ولأنها تعرف كيف تكتب، وترسم بكلماتها، فهي تتفاءل بما هو آت، وهو ما يبدو مختزلاً كخلاصة في نهاية كتابها، فتكتب: «هناك احتمالٌ آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا».




ثلاثية غرناطة

تأتي «ثلاثية غرناطة» و«الطنطورية» كأشهر روايات رضوى عاشور إن لم نقل أكثرها تأثيراً في المزاج الشعبي. الطنطورية (2010) تروي واقع الألم الفلسطيني على لسان بطلةٍ عاشت تجربة مذبحةٍ جرت في القرية عام 1948، أي عام التهجير القسري للشعب الفلسطيني عن أرضه٫ ولربما كانت لدراستها التي أعدّتها عن غسان كنفاني «الطريق إلى الخيمة» أثرٌ كبيرٌ عليها، إذ حملت «الطنطورية» كثيراً من روح غسان المتوقدة المتوافرة في نصوصه. باتت المجزرة هي البوابة التي دخلت منها رضوى إلى عالم «التيه» الفلسطيني بكل جوانبه وتمظهراته. أما مجموعتها الروائية «ثلاثية غرناطة» (1994)، وهي عبارة عن ثلاث روايات («غرناطة»، «مريمة»، «الرحيل») فتحكي قصة رحيل العرب عن الأندلس وتنتهي السلسلة بقرار «علي» آخر أبطال الرواية البقاء في الأندلس، لا الرحيل عنها، لأن في الرحيل «عن الأرض» موتٌ ليس بعده حياة. حازت السلسلة جوائز عالمية وعربية كما ترجمت إلى الإنكليزية (دار سيراكوز-نيويورك).