القاهرة | تقف الشاعرة صفاء فتحي (1958) بملامحها الحزينة دائماً، في زاوية معتمة وبعيدة قليلاً من مدخل المكتبة الواقعة في منطقة وسط البلد قبل وقت قصير من حلول موعد احتفالية توقيع ديوانها الجديد «ثورة، وحائط نعبره» (دار شرقيات -القاهرة). تُشعل سيجارة تلو أخرى، وتلقي ببصرها على المسافة القصيرة التي تفصل بينها وبين ميدان التحرير القريب من المكان، ويمكن رصد حركة العالم منه بوضوح.
تبدو الشاعرة المُقيمة في باريس منذ وقت طويل كما لو كانت كاميرا اقتصرت وظيفتها على رصد وتوثيق طريقة ذهاب أحبّائها إلى موتهم. هي قالت في عملها السابق «اسم يسعى في زجاجة» ما يشير باتجاه فكرة تتبع الخطوات التي تركها أصحابها ورحلوا «واقتفي أثرك وأتركك فقط كي أعود». مهمة كانت صفاء ارتكبتها أيضاً ونراها حاضرة في طريقة تعاملها مع الكاميرا التي تتبعت خطوات صديقها المفكّر الفرنسي جاك دريدا لتصنع عام 2000 وثائقياً عنه بعنوان D’Ailleurs, Derrida يفصح فيه عن الأثر الذي بقي داخله عبر حياته في أربعة بلدان مختلفة وكيف استخدم الكتابة كوسيلة لاستذكار حيواته الماضية فيها وتفكيكها بغرض استعادة ملكيتها مرة أخرى.
أصدرت أخيراً ديوانها الجديد «ثورة، وحائط نعبره»

والحال هذه، لن نجد صعوبة ونحن نضع أبصارنا في سيرتها المكتوبة شعراً على صور كثيرة للموت وهي تحتل قصائد ديوان «ثورة، وحائط نعبره» الذي سيبدو على هيئة أرشيف كبير لمجموعة من أحبّائها الراحلين. «كل شيء هو صورة» تقول صفاء المنشغلة أيضاً في حياتها بالكاميرا فوتوغرافياً وسينمائياً. هكذا تأتي الصورة مُتخذة لركن أصيل في سياق خلق اشتغالها الكتابي، من هنا سيرى قارئ الديوان كأنه في رحلة عبور داخل متحف لصور ومشاهد ناطقة بلسان حال ما رأته الشاعرة في ميدان التحرير أيّام «ثورة يناير»، لكن صفاء تؤكد أنّ «الوجود هو موضوع هذا العمل لا السياسة». إنّ الكتابة هنا بمعناها الإنساني حصرياً وقد قُرر لها أن تبدو مُنجزة بلا تنظيرات زائدة تجرف النص إلى ساحات نقاشية ستعمل بلا شك على خنقه. تتوقف صاحبة «قصائد» مستذكرة كيف كانت في باريس ومصابة بحالة من الذهول بعد «أحداث ماسبيرو» الشهيرة. بعدما وعت قليلاً أبعاد الصدمة، شعرت بإلحاح القصيدة الذي حاولت مقاومته بدايةً «لأنني لم أكتب أبداً من قبل عن أي حدث عام». بعدها توالت الأحداث «وكان تفاعلي مع جنون هذه الأحداث هو السماح بوجود القصيدة». والحال هذه، سيبدو المجال مُمهداً وسالكاً كي ترفع صاحبة «… وليلة» صوتها معترفة لرفاقها الموتى «أريد أن أقول (لكم) أنا لا أعرف الطريق إلى الجنة». لكن هذا لا يمنع من تفكيك ذلك «الموت» الذي حدث والعمل على إعادة ترتيبه وتوثيقه في محاولة لفهم وتتبع مسار تلك الخطوات التي وضعها الراحلون وهم في الطريق إلى موتهم. تسجيل كل ذلك عن طريق الصورة التي تأتي مكتوبة كما لو أنها تعبير عن «ما فاتني، وعن دمي الذي ضاع». مسألة إخضاع صورة الموت لطائلة التوثيق سيكون ظاهراً عبر مفتتح الديوان والإهداء المدّون عليه: «إلى محمد»، شقيق الشاعرة الذي مات بالفشل الكلوي قبل عام من «ثورة يناير» وصنعت له فيلماً وثائقياً «محمد ينجو من الماء» (2013). لكنّ لا تصفية حسابات في هذا العمل «فالفيلم ليس فيه أي نوع من المستويات خارج فكرة الوجود. هو وثيقة وجود لمحمد، لحياته ومواقفه من فكرة زرع الأعضاء ومن التغيير السياسي في مصر». وتوضح صفاء أنه أثناء تصوير الفيلم والحديث مع أحد أصدقائه، عَرَفت أنّه كان ثورياً يفكر في الثورة ويخطط لها مع صديق له شهد على ذلك في الفيلم. توفي محمد في صيف 2010 أي قبل الثورة وبالتالي لم يشهدها «إنما شهدها أولاده الذين شاركوا في أحداثها كأن محمد يشارك في الثورة عبر وجودهم في أحداثها. ومن هنا جاء ارتباط قصة محمد ببعض مشاهد الثورة في مصر». يسلط الفيلم الضوء أيضاً على عدد كبير من العلاقات ويضعها في مشاهد مرئية ومقروءة للمشاهدين، مثل علاقات الأخوة والبنوة. يطرح الفيلم سؤاله الوجودي: كيف يمكن لمجموعة من البشر يجمعهم ارتباط عاطفي تاريخي حميم أن يشهدوا على المرض والرحيل البطيء لفرد منهم؟ وماذا يحدث عندما نقف عاجزين عن إيقاف هذا الرحيل أو إرجائه؟
تواصل صاحبة «عرائس خشبية صغيرة تسبح في المنيا» شغلها مجدداً في تتبع خطوات رفاقها الراحلين ومتحسرة كيف أنهم «يموتون، ونحن نعيش». كل هذا من دون وقوعها في عثرة عدم تنبيه ذلك الشاب الذي أصابته طلقة من «قنّاص العيون»، متمنية منه أن «قل لقدميك اللتين لا يصحبانك حيث تريد إنّ الرحلة كانت للغياب». كأن المشهد هنا يتطلّب استدراكاً يوجب تعديل اتجاه الكاميرا كي لا تتورط في ذنب تجاهل صورة «تلك الأرض ويفترشها من لم يموتوا بعد». مسألة ستفرض ميلاناً جديداً للكاميرا نفسها ودفعها للسير بعيداً من شارع «محمد محمود» الذي شهد موتى كُثراً أو رفاقاً أصابت عيونهم طلقات قنّاصة وأعطتها إجازة طويلة من النور وفرضت عليها إقامة مفتوحة في العتمة. تكون الحال هنا مستوجبة للتنحي قليلاً والانتقال باتجاه «دار ميريت» والنجاة بين جدرانها: «صحوت من النوم على سجادة قديمة في «دار ميريت»، فوجدت بجانبي روائيّاً ينام». في النهاية، تعود الصورة إلى نقطة الحياة وتوثيق خطوات من تبقى عليها حيث «كان الناس يتحدثون إلى الكاميرا كأنهم يؤرخون لأنفسهم ويبعثون برسائل إلى العالم».